منذ مدة وأنا أتابع نشاط السيد محجوب السالك مؤسس خط الشهيد، في كتاباته وتصريحاته ومواقفه، كان آخرَها حديثه مع جريدة وطنية بتاريخ 6 ديسمبر. كنت قرأت له كتابا أفرغ فيه جهده في جمع ثقافة البيضان ومكوناتها، وشفع ذلك بملابسات نزاع الصحراء منذ ما يسمى في الذاكرة الشعبية بخبطة الطياير (هجمة الطيران)، التي تحيل إلى علمية إيكوفيان، والتي استعملت فيها القوات الفرنسية الوحدات الجوية لوأد الحركة التحررية، ثم حركة تحرير الساقية الحمراء، بعد الخيبة التي استشعرها أبناء المجاهدين، من تخاذل الدولة المغربية في حمايتهم ونصرتهم. لم يتنكر المحجوب السالك لمسيرته النضالية والتحاقه بقواعد الثوار في تندوف، وعمل من خلال الإعلام على الصدع بنضالهم ، ضد ما كان ُينظر إليه بؤرة الرجعية والإمبريالية. سار في ركاب مصطفى الوالي، مؤسس البوليساريو، رحمه لله، ووقف على ما في سويداء قلبه، مثلما وقف آخرون، ومثلما أعلن عمر الحضرمي على الملأ، من أن المصطفى الوالي أسر له من أنهم جنوا على شعبهم وزجوا به في متاهات. كان شعور مصطفى الوالي مثلما أعلن السيد المحجوب ولد السالك هو إيمانه بوحدة الشعوب، أو على الأصح الشعب الواحد الموزع بين دول وأقاليم جرّاء التقسيمات الاستعمارية، وكان من الطبيعي أن يكون هو وصحبه ضد السياسيات التي تندرج في سياق الاستمرارية للسياسات الاستعمارية. لم يكن يود أن تنفصل العرى بين أهله وموريتانيا والمغرب، مثلما قال المحجوب ولد السالك.
ليس هناك شخص حصيف في المغرب لا يشاطر هذا الرأي، ولا يود أن تكون العلاقات بين المغرب وموريتانيا استراتيجية، التي هي الشرط الأساسي لحل مشكل الصحراء، من أجل وحدة الشعب الواحد. شاءت الملابسات الجيوستراتيجية والظروف التاريخية أن تكون هذه المنطقة بؤرة صراع، ومن الضروري أن يعمل العقلاء أن تكون صلة وصل، وليس عامل فصل أو تمزق أو تشرذم. غايتنا مثلما قال مهندس الوحدة الأوربية مونيه، ليس تجميع دول، بل توحيد شعوب، وما سوى ذلك فتفاصيل.
للمحجوب شرعية نضالية، وله شرعية ديمقراطية أداها غاليا حينما زُجَّ به في غياهب سجون المخيمات بأكبر تهمة يمكن أن تُلحق بمناضل «صحراوي»، وهي مندس، وهي في أدبيات البوليساريو أعلى درجات الخيانة.. وعى السيد المحجوب، منذ تخلى موريتانيا عن إقليم تيرس، الذي يسمى في الأدبيات الاستعمارية بوادي الذهب، أن المخابرات الجزائرية تريد من مناضلي البوليساريو أن يكونوا تحت رحمتها لتتحكم فيهم، ولا تريدهم أحرارا في حركاتهم وقراراتهم. نعم يمكن الحديث مع السيد المحجوب ولد السالك، وينبغي الحديث إليه، لأنه حامل لشرعية، واع بالعمق التاريخي للدولة المغربية، لا يتنكر لتراث يوسف بن تاشفين ويغار عليه ويؤلمه كل ما قد يشينه. وهل يمكن أن نختلف في ذلك؟
لقد أعلنت الدولة المغربية عن مقاربة جديدة في تدبير مَلَف الصحراء، ومن دون شك أن هذه المقاربة لا يمكن أن تقوم إلا من خلال نخب جديدة، وأساليب جديدة، تأخذ بعين الاعتبار التركيبة السوسيولوجية للمنطقة، في هيأة تستلزم من أصحابها عمق التجربة والتحلي بالحكمة، تضطلع بدور الحَكم، لا ضير أن تكون معينة، وهيأة تخضع للاعتبارات الديمقراطية، يتم اختيارها من قِبل عامة الساكنة، وتضطلع بالتدبير وتخضع للمحاسبة. عدم الفصل بين هذين المكونين هو الذي أدى إلى توجس الشيوخ من الشباب، وضيق الأعيان من دينامية التغيير، ونفور الشباب مما اعتبروه ويعتبرونه استفرادا بالقرار والنفوذ والمال من قِبل بعض الأعيان. يُحكى أن المرحوم الحسن الثاني وقد استقبل بعض شيوخ القبائل في الداخلة عقب حفل الولاء في 4 مارس 1980، أن واحدا من الشيوخ أمسك بيده متوجها إليه بالحديث: أ ولد مولاي يوسف، لا تعودوا تجيبو لنا تساسْويت نتاعا، عودوا جيبوا لنا تساسْويت نتاعكم. (وُلّوا علينا أراذلكم ولا تولوا علينا أراذلنا). (تساسويت كلمة مادتها عربية، وهي السوء، وبنيتها أمازيغية).
والواقع أننا لا نريد أن تؤول الأمور إلى الأراذل، بل إلى الأخيار، وإلى الأخيار من أبناء المنطقة. إن الغاية من الخيار الوحدوي، هو بناء مغرب جديد من خلال إنسان جديد ورؤية جديدة. المسألة أعمق وأنبل من أن تُحصر في استغلال الثروات، بل في بناء صرح تاريخي، برّا بأجدادنا المرابطين. إن مقترح الحكم الذاتي مقترح جيد، وأحدث دينامية جديدة، بما في ذلك في المخيمات رغم التعتيم الإعلامي وحصار المخابرات الجزائرية، ولكن نجاحه رهين بآليات تفعليه، والنخب الموكول إليها أجرأته. المسألة لا تنصرف إلى آليات التدبير بقدر ما هي ينبغي أن تنصرف إلى مصداقية أصحابه وشرعيتهم.
وقبل هذا وذاك، نحتاج إلى شحنة نفسية لندب الجراح، وتجاوز مخلفات الإحن، وتجسيد التلاحم. وماذا لو رعت الدولة مشروع بناء مدينة جديدة بالساقية الحمراء، تحمل اسم يوسف بن تاشفين، هذا الذي يرمز إلى انصهار مكونات الأمة المغربية، وتُدعى إليه كل مكونات الشعب المغربي بالمساهمة، لفائدة العائدين، ولو بدرهم رمزي، كما فعلوا مع مسجد الحسن الثاني، في عملية نكون فيها جميعنا أنصارا ومهاجرين، ونتآخى جميعنا من خلال رمزية المشروع، وما يحيل إليه إلى تصوري مستقبلي؟
وماذا لو يُعهد إلى المحجوب ولد السلك هذا المشروع، يكون إحدى لبنات الوحدة، ونواة لتدبير مجالي جديد، غير هذا الذي تعرفه مدن المنطقة، وتصطبغ فيه المشاكل الاجتماعية بخطابات سياسية راديكالية.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير
المحجوب السالك من العباقرة القلائل الذين انحبتهم الصحراء، ولكن قليل من يفهمهم….