يرجع بنحدو تشكل النخبة الأرستقراطية التي تسيطر على اقتصاد وإدارة البلاد، إلى القرن 19. هذه النخبة استطاعت الاستفادة من الحماية وطورت نفسها لتستمر مهيمنة على دواليب الاقتصاد والدولة بعد الاستقلال.
تفسر في كتابك «Les Elites du Royaume» كيف تحتكر السلطة في المغرب أقلية من العائلات الغنية، خاصة من فاس، ابتداء من القرن 19. كيف تشكلت هذه النخبة الأرستقراطية؟
لنعد إلى الأحداث التاريخية التي تبين كيف ظهرت وتطورت هذه الارستقراطية، التي تحكم المغرب منذ القرن 19. خلال انتفاضة 1820 بمدينة فاس احتج كبار التجار، المنهكون بالضرائب والرسوم الجمركية على الاستيراد، على سياسة الانغلاق الاستراتيجي التي نهجها السلطان مولاي سليمان. وطالبوا بحرية التجارة، دون أن يعلنوا معارضتهم الواضحة للملكية. نجحت هذه الانتفاضة، التي شارك فيها الحرفيون والزوايا، في دفع السلطان إلى التراجع لكنها لم تحل مشكل التجار الكبار، أي تحرير مبادلاتهم التجارية مع الخارج. رغم أن مولاي عبد الرحمان، خلف المولى سليمان، أتاح لهم هامشا للمنافسة المربحة، إلا أن هؤلاء التجار ظلوا محرومين من شروط مضاعفة أنشطتهم في التصدير والاستيراد. كما ظلوا محرومين من امتلاك رساميل خاصة، وتحولوا إلى خدام لدى السلطان، الذي يحتكر كل الأسواق والسلطات. لم يتغير هذا الوضع إلا بعد التدخل العسكري لفرنسا واسبانيا في محطتي إيسلي وتطوان، وتوقيع الاتفاقية التجارية المغربية البريطانية، التي أنهت القيود المفروضة على التجار، ووفرت لهم الحماية القنصلية.
ابتداء من سنة 1873، تاريخ حدوث هذا التطور، ستشق هذه الفئة طريقها نحو المجد. منذ تلك اللحظة، صار هؤلاء التجار الأثرياء والمثقفون مخاطبين لا محيد عنهم بالنسبة للحكومات الأوربية. سيطروا على المبادلات التجارية الخارجية للبلاد، وراكموا الأرباح، التي تضاعفت بفضل المضاربات والشركات العائلية. من أجل توسيع سيطرتهم اعتنق هؤلاء الإيديولوجيا الليبرالية، وأصبحت لديهم طموحات لإصلاح نظام الحكم السلطاني. وهكذا أشركهم الحسن الأول في إعداد السياسية الاقتصادية للدولة، لتأكيد رغبته في دفع المغرب نحو التقدم. كانت مهمتهم تتجلى، على الخصوص، في قيادة سياسة إصلاح جبائي ونقدي، تحرير المبادلات التجارية الخارجية، وتأمين الأملاك العقارية التي كانت ما تزال آنئذ مهددة بالمصادرة.
كيف ساهمت الحمايات القنصلية، ثم الحماية الاستعمارية، في تطور هذه النخبة؟
حافظت الحمايات القنصلية على مصالح الملكية وهذه النخبة في آن واحد. بفضل هذه الحمايات تمكنت تلك العائلات من توسيع مجال معاملاتها التجارية وأصبحت تملك مواطئ قدم في أوربا وإفريقيا الغربية. شملت الحمايات عددا كبيرا من التجار المسلمين، ومكنتهم من أن يتحولوا إلى وسطاء في المبادلات التجارية بين أوربا والمغرب. في مرحلة لاحقة لجأ بعض أفراد العائلات التجارية، التي نتحدث عنها، إلى الحصول على الجنسيات الأوربية للاستفادة من أسواق أضحت حكرا على الأوربيين منذ احتلال الجزائر سنة 1830. هذه الجنسيات ما يزال يحملها أبناؤهم اليوم المتموقعون في مراكز السلطة. حينما حل نظام الحماية، استفاد هؤلاء أكثر من غيرهم، من التحديث الاقتصادي وتطوير الموانئ والتعمير، فتمكنوا من احتكار التجارة والمناصب الإدارية العليا.
اختفت الحكومات ذات الطبيعة العسكرية التي كان يسيطر عليها نبلاء العالم القروي، لتخلفها حكومات هذه النخبة الأكثر غنى وثقافة ونبلا، أي البورجوازيون الرأسماليون، والعلماء. هؤلاء العلماء كانوا في طليعة هذا النظام المديني، الذي استطاع بعبقرية سياسية الجمع بين الدفاع عن مصالح تلك العائلات والأرثوذوكسية الدينية للشرفاء. هذا التحالف كان الضمانة الوحيدة لاستمرار مراكمة الثروات الاقتصادية وبلوغ مناصب القيادة السياسية. كان الانتماء العائلي، بالنسبة لهذه الفئة، أهم من القيم الوطنية، فتحالفوا في ما بينهم من خلال المصاهرات لضمان التقاء المصالح والثروة. وهكذا تشكلت سلالات عائلية بورجوازية كبيرة، في ظل الملكية. هذه السلالات ما تزال مهيمنة إلى اليوم بشكل حصري، تقريبا، على جميع الأجهزة السياسية والبيروقراطية والاقتصادية للمغرب، سيطرة تمتد على عهد 4 سلاطين و3 ملوك إلى غاية محمد السادس. فقد استطاعت هذه السلالات العائلية البقاء على قيد الحياة ونجت في مواجهة الزمن والأزمات والكوارث الاجتماعية والتحولات السياسية، التي أتت على تحالفات أخرى ذات طبيعة إقطاعية.
حاوره مروان الجزولي
تتمة المقال تجدونها في العدد 3 من مجلتكم «زمان»