عاش مسيحيون بالمغرب، وبنوا كنائسهم في مراكش وفاس وسبتة، ومنهم من مارس عباداته داخل البيوت تخفيا.
ليس جديدا القول بأن المعطيات عن الكنائس وأتباعها في المغرب الأقصى خلال العصر الوسيط نادرة، ومتسمة بالغموض. ندرة تأتي، على الأقل في المصادر الإخبارية التي كتبها المغاربة المسلمون، بسبب طغيان الأحداث السياسية والعسكرية عليها، والحضور القوي للذهنية الفقهية التي تعادي الآخر غير المسلم في سياق تاريخي متوتر مع مسيحيي الضفة الشمالية للبحر المتوسط وخاصة مسيحيي شبه الجزيرة الإيبيرية باعتبارهم جزءا من “دار الحرب”. أما المصادر المسيحية في الموضوع، فهي أكثر وفرة مقارنة مع سابقتها، ما دام أن الكنيسة في روما كانت مؤسسة قائمة بذاتها، ملتفتة لما يجري في كنائس العالم القديم ومنها كنائس بلاد المغرب، ولها أرشيفاتها التي تمت المحافظة على جزء مهم منها. لكن هذه المصادر مع ذلك، وبالنظر للشحنة النفسية اتجاه “دار الإسلام”، فإنها طبعت بـ”التعصب وتحريف الحقائق أحيانا”. كل هذا يجعل من الموضوع مستعصيا، نوعا ما، عن التشريح.معلوم أن الديانتين التوحيديتين اليهودية والمسيحية سبقتا الإسلام إلى المجال المغربي، وبقدر ما كان عدد اليهود والمسيحيين يتناقص في هذا المجال، بقدر ما كان عدد المسلمين يتزايد منذ دخولهم إليه، وظل الأمر كذلك خاصة بالنسبة للمسيحيين. فوِفْقَ ما هو متوفر من مادة تاريخية، «بقيت أقلية صغيرة من السكان تدين بالنصرانية في بعض الجهات من المغرب. ومن بين هذه الجهات نذكر تامسنا وفاس بالإضافة إلى بعض المناطق الجبلية الوعرة». ومع بداية الحقبة الإدريسية، أجبروا على اعتناق الإسلام. فاستمر عددهم في تراجع بدليل أنه «خلال الاجتياح المرابطي، لم تسجل المصادر أي اصطدام مع الطوائف المسيحية، مما يبعث على الظن أن عددهم ظل قليلا»، إلى حدود منتصف القرن 5هـ/ 11م. وقبل ذلك، وتحديدا مع بداية هذا القرن، تقلص الوجود المسيحي “الرسمي”، لنجد أن “الأساقفة الذين تباهت بهم كنيسة بلاد المغرب كان عددهم يفوق مئتين وخمسة أسقفا، لم يبق منهم سوى خمسة أنفار سنة 444هـ/ 1053م رغم أن الأساقفة هم برابرة كما جاء في وثائق مون كاسان (Mont Cassin).
مسيحيو المغرب أثناء وصول الإسلام
تضافرت جملة عوامل أدت إلى هذا الوضع، منها دخول عدد من المغاربة إلى الإسلام بمن فيهم المسيحيين، وتحول عدد من الكنائس إلى مساجد كحال كنيسة سبتة، ومنها أيضا خلافات قساوسة الكنائس. ففي سنة 444هـ/ 1053م، اندلع صراع بين أساقفة ثلاثة وهم: “توما (Tomas)، وبيير (Pierre) ويوحنا (Jean)، وازداد الأمر تدهورا حين فرض أسقف مدينة كومي(Gummi) ، يرجح أنها قلعة بني حماد، نفسه «جاثليقا (القيم العام على الشأن الديني) جديدا لعموم إفريقية، واعتبر نفسه القيم الوحيد على الشأن الديني ببلاد المغرب، وعلى ما تبقى بها من الكنائس والرعايا المسيحيين، مما أجج رفض الأساقفة الثلاثة لطموحاته التي تعدت اختصاصاته، وخلقت شرخا جديدا في الصف الكنسي بعد الانقسامات التي عانى منها انطلاقا من القرنين الثالث والرابع الميلاديين». وانتهت هذه الخلافات، ظاهريا، بعد أن أقر البابا ليون التاسع (Léon IX)، من روما، توما أسقف قرطاج، جاثليقا لعموم كنائس بلاد المغرب ومسيحييها، وطلب من بيير ويوحنا الانضباط لقرارات الأسقف المعين من البابا خدمة لعموم الرعايا المسيحيين». وطلب منهم جميعا «جمع شتات المؤمنين بالكنيسة، وإقامة مجاميع مسكونية (Conciles) والاهتمام بالأعمال الكنسية، والالتزام ولو مرة في السنة بإقامة مجمع كنسي (Synode) إن أمكن لفائدة رعاياهم». غير أن الجسم المسيحي بالمغرب الأقصى ظل معتلا بفعل استمرار الصراع بين مكوناته.
محمد ياسر الهلالي
تتمة المقال تجدونها في العدد 46-47 من مجلتكم «زمان»