في 2002 كتب المرحوم اسماعيل ولد فاضل ولد السويح القيادي في جبهة البوليساريو، والذي توفي بلندن بعدها، رسالة موجهة إلى مغربي افتراضي من أجل حوار حول قضية الصحراء. لم َيحِدِ اسماعيل ولد فاضل عن الخط العام للبوليساريو، ومن الصعب تصور موقف غير ذلك، وهو يضطلع آنذاك بمسؤولية في قيادة البوليساريو، ولكن نبرة تلك الرسالة كانت تشي بهاجس أهم، هي عوض أن يظل مشكل الصحراء بؤرة التوتر في المنطقة، أن يصبح مدخلا للوحدة وعاملا للاستقرار.
لست أستطيع، هنا في هذا الحيز الضيق، أن أناقش رسالة ولد فاضل، ولا قراءاته للتاريخ، ولا توظيفه لبعض المعطيات السيوسولوجية التي يجعلها قصرا على الصحراء، كما لو أن الصحراء مفصولة عن باقي مناطق المغرب. ولست أدري إن كانت الأفكار التي حملتها الرسالة والتي تحتفظ بطابعها الرسمي لشخصية قيادية في الجبهة هي الأفكار التي حملها المرحوم اسماعيل ولد فاضل إلى مثواه الأخير، ولكني أحتفظ منها بعصارتها، هي ضرورة الحوار. والحوار ليس لغطا ثنائيا. يفترض الحوار معرفة ِوجهة الطرف الآخر، والقدرة على فهمها، إذ لا يمكن إجراء حوار مع من يحمل تصورات جاهزة أو أحكاما مسبقة، فغالبا ما ينتهي الأمر إلى ما يسمى بمونولوغ ثنائي، يستمع الشخص أو الفريق إلى ذاته، ويخرج من قاعة النقاش بمثل ما دخل به. فما يعتبر قناعات، تحدده، في جانب كبير، مسارات الأفراد والسياقات التاريخية وزوايا النظر، لذلك فهي قابلة أن تتطور باختلاف السياقات، واختلاف زاويا النظر.
ومن الصعب في إطار رسمي أن يخرج المتحاورون، أو على الأصح المتفاوضون، عن الاتجاه العام لمرجعياتهم، ولذلك راوحت المفاوضات التي تمت تحت رعاية الأمم المتحدة مكانها.
إنني أؤمن ببعض القواعد، لا أتفرد فيها بشيء، أولها الخيار الوحدوي، وثانيا، الإيمان بالعمق التاريخي للدولة المغربية والتي كان من أنصع صفحاتها تلك التي خطها أبناء الصحراء من المرابطين في تلاحم مع أبناء الشمال، وثالثا، المصير المشترك لشعوب المنطقة مهما كانت المشاكل القائمة.
ومن جهة أخرى، لا أرى أن منطق التجزئة يمكن أن يكون قاعدة لهذا المصير المشترك الذي نرومه، ليس على مستوى المغرب وحده، بل على مستوى المنطقة برمتها. إن من شأنه أن يعمق الإحن ويُنكّئ الجراحات، ويؤجج الحزازات، ويدفع بالتالي إلى اهتزاز في المنطقة تدخِلها في دوامة لا تُدرك مضاعفاتها. إن هذه القواعد لا تعني القفز على حقوق ساكنة المنطقة في تدبير شؤونها ومواردها، وعلى خصوصياتها، بل على دورها كحلقة وصل بين أطراف عدة من الكيان المغاربي. إننا لا نستطيع أن نتجاوز أدواء الماضي من دون مصارحة. من دون الوقوف على الحقيقة، ومن دون الوقوف على الأخطاء دون أن نذهل عن الهدف الأسمى، الذي هو الوحدة.
لقد اسُتعمل أبناء الصحراء في صراعات وُوظِّفوا في نزاعات، ومنها عناصر من اليسار المغربي التي رأت فيهم رأس حربة ضد النظام، ووظفهم نظام القذافي من أجل حلم دولة فيدرالية صحراوية، وتدخلت المخابرات الجزائرية، بأخَرَة، لكي لا يتم خلخلة ما أسمته بالتوازن الاستراتيجي الإقليمي، وكانت النوايا المضمرة قبل 1975 شيئا آخر غير مبدأ تقرير المصير والتي برزت فيما سمي بالحل الرابع، بعد فشل مخطط بيكر، وتوارى بعدها، دون أن ننسى التقسيم، ودون أن ننسى التجاوزات التي ارتكبتها الإدارة والتعسفات التي مارستها، والريع الذي رعته، والاختلالات السوسيوثقافية التي أفرزتها، والأوضاع المأساوية التي ُدفع إليها الصحراويون في المخيمات. كل هذه حقائق مؤلمة، ومن المفهوم أن تخلف حسرة لدى أبناء الصحراء.
لقد استطاعت الدولة المغربية أن تتدارك كثيرا من الأخطاء وتتصالح مع كثير ممن وقفوا ضد خيارتها في فترات سابقة، بل مع من أدخلتهم السجون، ودفعتهم للنفي، وأبانوا من جانبهم عن وعي سياسي كبير، وهومن الأمور التي تحسب لها وتحسب لهؤلاء المناضلين الذي ترفعوا عن المآخذ الشخصية، من أجل أهداف أسمى.
إن ذات المقاربة يمكن أن تنتهج في الصحراء في هدف المصالحة لبناء الوحدة على أسس متينة وواقعية.
وهو ما أبان عنه، بذات الوقت، كثير من أبناء الصحراء وكثير من مناضلي البوليساريو أنفسهم، فلم تكن عودة الكثيرين منهم نزوة، بل تعبيرا عن وعي، تعبيرا عن الوشائج التاريخية بين الشمال والجنوب، وتعبيرا عن الإيمان بالمصير المشترك.
إنني أؤمن مثلما كتب واحد من أصحاب الرأي المرموقين، بأن العقلاء يمكن أن ُيذوّبوا المشكل ويسهموا في حله، خارج الإطار الرسمي، أسوة بما فعلت تركيا مع مشكل الأكراد، مع أن مشكل الأكراد أعقد، والحزازات أعمق.
على العقلاء من أبناء الصحراء، من شيوخ ومناضلين، وشباب واع، أن يكونوا أداة الحوار، مع نظراء لهم من أبناء الشمال من ذوي المشروعية النضالية والنزاهة الأدبية والعمق الفكري، في هدوء، بعيدا عن كل أسباب التشويش. إن البوليساريو، مهما تفرقت بنا السبل هم أبناؤنا، شأنهم في ذلك شأن النسيج العام لأبناء الصحراء، والجزائريون، مهما اختلفنا، هم إخواننا، والموريتانيون طرف لا محيد عنه في إيجاد حل للقضية، فهم جزء مما يسمى «تراب البيضان»، وهم لذلك الامتداد الطبيعي ثقافيا واقتصاديا ووجدانيا من واد نول فالساقية الحمراء. إننا لن نستطيع حل المشكل بالركون إلى القوالب الاستعمارية، وتقسيماتها الجغرافية، ومفاهيمها التي برزت في أرضية سوسيوثقافية مخالفة وفي سياق تاريخي معين والتي من شأنها أن تمزق السدى الاجتماعي والإنساني لساكنة ارتبطت في علاقات ووشائج لقرون.
لم نستنفد بعدُ كل الإمكانات الممكنة لتجاوز وضع متوقف وشائك ومعقد، ولكنه لن يكون حتما أكبر من ذكائنا ولا ما تفرضه المصلحة المشتركة لشعوبنا.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير