يحاول كتاب “إسبانيا وحرب سيدي ورياش من خلال الوثائق الإسبانية 1893-1894” تسليط الضوء على جانب منسي في الصراع بين قبائل الريف وإسبانيا، بعدما غاب دور الدولة المركزية في المغرب، غداة هزيمتها في حرب تطوان (1859-1860).
واعتمد جمال عاطف، الباحث في تاريخ الريف، على ما تضمنته الأرشيفات الإسبانية والفرنسية خصوصا. يشير الكتاب إلى أن ما عرفت بـ”حرب سيدي ورياش” كانت نتيجة لاستمرار النوايا الإسبانية في التوسع، وهو ما كرسته على أرض الواقع من خلال الاستيلاء على أراضي قبائل ريفية خارج حدود مليلية. “إن النوايا الاستعمارية التي أبانت عنها الحكومة الإسبانية تجاه المغرب خلال منتصف القرن التاسع عشر، قد انتقلت عدواها إلى منطقة مليلية قبل أن يشرف القرن على نهايته”، يقول جمال عاطف في المقدمة، في إشارة إلى انتشار الإسبان في محيط قبائل الريف المجاورة لمليلية.
غير أن السبب المباشر لـ”الحرب” كان هو إقدام إسبانيا على بناء ثكنة عسكرية في قلب ضريح سيدي ورياش، واستغلال المقبرة، التي تحمل الاسم نفسه، لتشييد بنايات أخرى تابعة لها.
يوضح المؤلف ذلك بالقول: “غير أن المجريات الكرونولوجية للحدث أفرزت وضعية أخرى، تبينت فيها النوايا الإسبانية الاستعمارية بجلاء، وذلك عندما أقدمت هذه الأخيرة على بناء ثكنة عسكرية في قلب ضريح سيدي ورياش. إن أسلوب التحدي والاستفزاز يبدو واضحا في إستراتيجية الدبلوماسية الإسبانية، لأن المساس بمكان مقدس في حجم ضريح سيدي ورياش كان سيثير حتما شعور القبائل المجاورة التي كان موقفها يتعارض مع عملية توسيع الحدود، ناهيك عن فكرة استغلال الضريح والمقبرة في مشاريع عسكرية إسبانية صرفة”.
هكذا، أسفرت ردود الفعل الأولى لمشروع البنايات العسكرية الإسبانية في مقبرة سيدي ورياش، يذكر المؤلف، عن موقف عدائي مباشر عبر عنه سكان القبائل المجاورة، وذلك بالإقدام على شن هجوم منظم استهدف إحباط المشروع العسكري الإسباني، وهدم البنايات التي شرع في تشييدها ابتداء من يوم 28 شتنبر 1893. في مقابل تحرك الريفيين، أشار جمال عاطف إلى الدور السلبي الذي لعبته السلطة المركزية بٍإرغامها القبائل الريفية على عدم الهجوم على الإسبان، معتبرة القبائل المعنية بالصراع “عناصر متمردة وخارجة عن القانون”، بل إن المخزن سارع إلى “إرسال حملات عسكرية إلى هذه المنطقة من أجل معاقبة الأشخاص المعنيين، وهي مسألة وردت حتى في المراسلات الرسمية المتبادلة بين المخزن المغربي والإسبان”.
غير أن أغلب الريفيين انخرطوا في عملية مواجهة الإسبان. “إن التطورات العامة التي شهدتها منطقة مليلية خلال نهاية شهر أكتوبر من سنة 1893، بينت أن الأمر لا يتوقف عند الدور الذي تقوم به بعض العناصر الريفية فحسب، بل تجاوز ذلك ليشمل جل القبائل المجاورة لمليلية، والتي اتخذت موقفا موحدا، شعاره مواجهة الإسبان، ووقف المد التوسعي الذي دأب هؤلاء يباشرونه على حساب أراضيها. وحينما أدركت إسبانيا هذا التلاحم القوي الذي حصل بين أغلبية القبائل المجاورة، تأكد لها في المقابل أن الأمر سيبشر بحرب حقيقية مع هذا القوات، إن هي أرادت أن تستمر في مشروعها التوسعي في منطقة مليلية”، نقرأ في الكتاب.
في أجواء التوتر تلك، أصبح كل جانب يحسب عداده وعتاده، ففيما استنجد إسبان مليلية بحكومة مدريد لإرسال المزيد من التعزيزات البشرية والمادية، عملت الجبهة الريفية على مد رجالها بأسلحة مهربة من سبتة ومليلية ذاتها، مع “دعم سري” من بريطانيي جبل طارق للريفيين في حربهم التي استمرت ما بين شهري أكتوبر ونونبر 1893.
لم يمنع التفوق الحربي والعددي للإسبان من أن يراكموا الخسائر أمام قبائل تحارب من أجل قضية. “وقد كان من النتائج المفجعة لإسبانيا في هذه المعركة، أن سقط الجنرال مارغايو قتيلا، وهو ما حتم تعيين قائد جديد للجيش”، مع فتح قنوات للتفاوض مع السلطة المركزية في المغرب.
في تلك الأثناء حل المولى عرفة أخ السلطان، يوم 3 دجنبر 1893، بالمنطقة للإشراف على مفاوضات الصلح، التي انحازت، في الأخير إلى الشروط الإسبانية المتمثلة أساسا في “إلزام الحكومة المغربية بالقبض على العناصر الريفية المتهمة بالهجوم على الحصون الاسبانية في سيدي ورياش، وإعدام إثنى عشر منهم أمام الملأ، وتدمير جميع الأسلحة التي كانت بحوزة سكان القبائل الريفية، وطمر الخنادق التي سبق لسكان الريف أن حفروها على الحاجز الحدودي لمدينة مليلية…”.
كان من شأن تلك الشروط أن تضع حدا للحرب، خاصة بعد توقيع اتفاقية 5 مارس 1894 بمراكش بين إسبانيا والمغرب، في غياب الريفيين المعنيين الأوائل بتك الحرب التي صار لها صدى دولي، لكنها ساهمت، أيضا، في أن تكون بداية مثالية لتوسع الإسبان في مجال الريف ككل.