تعنى العديد من الدراسات بالحديث عن تاريخ المسيحية بالمغرب وعلاقتها بالإسلام في شمال إفريقيا. لكن يكاد يندر البحث في علاقة السلاطين المغاربة بالمسيحية وبالسلطة البابوية. في هذا الحوار، يغوص الأستاذ الحسن الغرايب، المتخصص في تاريخ المسيحية، في هذه العلاقة، ويكشف بشكل مفصل عن محاولات تنصير السلاطين المغاربة، ووضع المسيحية داخل بلاطهم.
في البداية، كيف يمكن وصف أوضاع المسيحيين أيام قدوم المسلمين العرب لأول مرة إلى المغرب؟
لم تثر كتب التاريخ أمر مسيحيي الأمازيغ ولا تاريخهم، ولا الوضعية التي كانت عليها حالهم، إذ كان هَمُّ مؤرخي المرحلة هو إعلاء أمر الفاتح الجديد، وإعطاء مساحة كبرى لأخباره في كتب المغازي والفتوح. وقد زاد هذا الغموض المتعمد أمر البحث عن حياة مسيحيي المغرب الأقصى صعوبة، وحتى قادتهم ممن كانت لهم جولات صراع مرير مع الفاتحين الجدد لم تتناول قضيتهم إلا في جانبها المناوئ لدعوة جديدة، فكسيلة الذي لم ترد في شأنه توضيحات حول إسلامه، أو بقائه على دين أجداده، ظل لغزا خاصة ما تعلق بترتيباته لدخول القيروان ومعاملته للمسلمين بها وعدم إكراهه المسلمين الباقين بها على اعتناق المسيحية، وهو نفس ما قامت به ديهيا (الكاهنة) حين تجاهلت القيروان وسكانها، وكأن الأمر لا يعنيها في شيء. إن المسيحية والإسلام دينان تبشيريان كما أنهما لا يختلفان من حيث طبيعتهما. فكل أتباعهما أبدوا حماسا كبيرا في إكراه الآخرين على اعتناق ديانتيهما، وهو ما جعل الصراع يستمر لمدة طويلة على عكس ما حدث في المشرق. ولما كان الشمال الإفريقي قد عرف نحلا مسيحية عديدة، فإن الفاتحين اعتبروها ضربا من المقاومة للمد العربي الإسلامي، وربما كانت هذه من أسباب ما عرفه الشمال الإفريقي من بطء في “الأسلمة” امتد من القرن السابع إلى القرن التاسع الميلاديين، فالحرب قامت بدور سياسي وديني، ولم تكن هدفا في حد ذاتها بل توخت منها قوة المسلمين إدماج القبائـل البربرية في “الأمة الإسلامية” كتصور مثالي وبديل لوضعيتهم. فاعتناق الأمازيغ للمسيحية ومقاومتهم للعرب لم يكن أبدا صراعا بين عقليتين فقط، بل كان صراعا أملته ظروف طبيعة الديانتين التبشيريتين، زيادة على الواقع الذي أفرزته ظروف الفتح القائم على المغانم، اعتبارا لكون الخلفاء بالمشرق كانوا يرون في إفريقية وبلاد المغرب منجما لا ينضب للسبي واحتجان الأموال وتجنيد الخدم للعمل بالقصور والأراضي التابعة لها.
فالعقلية، التي أرخت للفتوح، لم تسمح بإيراد العناصر التاريخية الضرورية لمقاربة الوضعية الاجتماعية للبربر غداة الزحف العربي، لأنها لا تؤرخ في أغلبها إلا لنتائج الحروب والصدام عبر تعداد الحشود والسبايا والغنائم دون الوقوف على الحياة الاجتماعية واليومية لسكان البلاد من الأمازيغ. ويبدو أن التأريخ لحركة المقاومة الأمازيغية أثناء الفتوحات الأولى من الصعوبة بما كان، لأن ما يهيمن على الكتابة التاريخية للمسلمين هي النظرة الأحادية للتاريخ.
ماذا عن اعتناق الأمازيغ للمسيحية؟
ما يمكن قوله هو أن الوضع العام لمسيحيي المغرب لم يختلف عن وضعية باقي الساكنة من ذوي النحل المختلفة (المجوس واليهود حسب ما جاء عند ابن خلدون)، علما أن الأمازيغ المتنصرين لم يدينوا بدين محتليهم، بل كانت لهم مذاهبهم المخالفة لغيرهم من مسيحيي المناطق الحضرية، فقد دان البعض بنحلة مخالفة لما اعتنقه ممثلو روما أو بيزنطة بشمال إفريقيا، بما فيها المغرب الأقصى الذي كان يسمى آنذاك بموريطانيا الطنجية. وأمام سياسة القمع والنفي المتبعة ابتداء من سنة 347م بنوميديا وباقي المناطق ضد الدوناتيين، جعل جنوب موريطانيا الطنجية ملاذا لهم ولدواريهم، وهو ما جعل أمر الحديث عن وضعية للمسيحيين بالمغرب الأقصى بالأمر الصعب، لأن وجود نحلتين متعارضتين في مجال يمتد من نوميديا إلى جنوب موريطانيا الطنجية جعل من وضعية المسيحية عموما غير واضح هذا على مستوى الديانة. أما على مستوى المعيش اليومي، فمعروف أن القبائل الأمازيغية لم تكن صراعاتها، في الغالب، إلا حول الزعامة دون الالتفات إلى الانتماء إلا ما ندر، لا سيما إن كانت القبيلة تدين بأكثر من معتقد. لهذا وجدت الجيوش العربية الإسلامية بلاد المغرب عبارة عن فسيفساء عقدية تتنازعها حمى الصراع المسيحي الداخلي (مسيحية رسمية-دوناتية معارضة) وصراع عقدي خارجي (مسيحية-يهودية)، وهو ما سهل أمر الفاتحين رغم طول فترة الفتح عكس ما وقع بالشرق. كما أن الكنيسة نفسها عرفت عزوفا ملحوظا من الأمازيغ الذين كانت لهم كنائسهم بالمناطق الحضرية باعتبارهم يدينون بديانة مغايرة لحاكميهم، دون إغفال الغياب الملحوظ لمعمار كنسي خارج الليمس (حدود رومانية)، مما جعل المؤرخين لا يتعاملون مع هذا المعطى بحذر، معتبرين غياب الكنيسة عنوانا لغياب المسيحية.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 78 من مجلتكم «زمان»