ما تزال تختزن ذاكرة محمد العيساوي المسطاسي، وهو البالغ 97 سنة، الكثير من الأحداث والوقائع التي عرفها المغرب إبان الاستعمار وأثناء عهد الاستقلال. في هذا الحوار، يعود محمد العيساوي المسطاسي الوحيد من الأحياء الذين وقعوا على عريضة المطالبة في الاستقلال، يوم 11 يناير 1944، إلى الانتفاضات الأولى التي كان شاهدا عليها في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، وإلى الظروف التي سبقت تقديم العريضة، وإلى الخلافات التي وقعت بين رجال الحركة الوطنية قبل وبعد الاستقلال.
فيما يلي نص الحوار:
متى التحقتم بالعمل الوطني؟
بدأ وعيي السياسي يتشكل وأنا ما زلت طفلا، فبعد معركة أنوال في الريف، وفي عام 1924 على ما أذكر، كنت في المدرسة الناصرية، والتي كان من بين أساتذتها المختار السوسي وعلال الفاسي وإبراهيم الكتاني وآخرون. وأذكر أنه وقع اجتماع في بيت المختار السوسي، وخلص الاجتماع إلى تأسيس جمعيتين وطنية سياسية وأدبية، الأولى تزعمها الفاسي، والثانية ترأسها السوسي. كما أذكر أن تلاميذ من ثانوية مولاي إدريس بفاس لعبوا مسرحية لا أذكر شيئا عنها، ونتج عن هذه المسرحية أن اعتقل مدير الثانوية آنذاك محمد بن محمد غازي، وهو أخي من أمي، من طرف سلطات الحماية، ونقلته إلى مكناس. وبعد مدة، تم نفيه إلى الدار البيضاء، ولم نعد نعلم عنه شيئا، إلا بعد حوالي سنة حين أرسل إلى والدتنا يخبرها عن مكان إقامته. وفي دجنبر 1934، تقدم السوسي ورفاقه بما كانوا يسمونه «المطالب الوطنية».
هل هذه هي سنة التحاقكم بالعمل الوطني؟
لا.. أذكر أنه بعد عودتي من آسفي، كنت أدْرُس بالجامع الكبير في مكناس، وقبلها كنت أدرُس عند الفقيه بلبشير في سيدي مْغيتْ. وحتى لا أعود للدراسة عنده، وأتمكن من الدراسة في الجامع الكبير، فضلت أخذ العلم على يد الفقيه التجاني بن رحال في سيدي الحارثي بزنقة براكة في المدينة القديمة. كانت توجد قرب الجامع الكبير مكتبة في ملكية الفقيه محمد بن محمد الأجَني، كنا نقف فيها للإطلاع على محتوياتها. وذات يوم، دعاني الأجني إلى مكتبته لشرب الشاي معه، وبدأ يثني على محمد بن الحسن الوزاني. وكان ردي أن الوزاني لا يحتاج إلى كل هذا فهو معروف، لكن قصد الأجني من ذلك هو التمهيد للحديث عن قضية الانشقاق.
هل تقصدون الانشقاق الذي وقع داخل الكتلة عام 1937؟
نعم. سألت الفقيه الأجني عن الذين ناصروا الوزاني من أعضاء الجمعية الوطنية؟ فأجابني لا أحد. قلت له: «آ الفقيه اللي بعقلوا تَا يَتْبَعْ الناس، واللِّي حْمَقْ تا يَتْبَعْ الناس»! فنهرني قائلا: هذا ما لديك، فطلب مني مغادرة مكتبته وحتى الشاي لم أشربه معه (يضحك). مبدئيا كان الفقيه الأجني مشايعا للوزاني، وأرادني أن أتبع الطريق نفسه. كان هذا انشقاق الكتلة سنة 1937 (تأسيس الحزب الوطني من طرف علال الفاسي والحركة القومية من طرف الوزاني)، وإلى حدود تلك اللحظة لم أكن قد انخرطت بعد في العمل الوطني، لم تكن لي أية ميولات سياسية بعد.
صادف ذلك وقوع أحداث واد بوفكران سنة 1937؟
لا، أحداث بوفكران وقعت يوم 2 شتنبر 1937 بالضبط، وانشقاق الوزاني ومن كان معه وقع قبل ذلك.
لماذا رفضتم الالتحاق بالوزاني، والعمل بنصيحة الفقيه الأجني؟
لأني لم أكن قد تشبعت بالأفكار السياسية بعد، وكيف أعمل بنصيحته وهو قد رفض مدي بكأس شاي؟ [يضحك مرّة أخرى] ثم جاءت أحداث 2 شتنبر، وكان أعضاء في الحزب الوطني يقومون باجتماع ببزار في درب الشرفاء الأدارسة، من بينهم محمد بن محمد بن النكتة برادة مالك البزار، وبنعزو وبنحماد وسيدي العلمي الإدريسي، وأحيانا، يقرؤون الجرائد التي تأتي من فاس، عبر البريد الإنجليزي.
هل كان معهم الفقيه إبراهيم الهلالي؟
آه، سيدي إبراهيم الهلالي، نعم… أملك صورة تضم عددا من الذين انشقوا عن الكتلة وفيها الهلالي، والفقيه الأجني ومحمد المنوني المعروف بـ«الخو» والفقيه برادة، والباقي لا أذكرهم.
هل هؤلاء هم من كانوا في صف الوزاني؟
نعم.
ماذا تذكر عن أحداث بوفكران؟
تم القبض على خمسة أشخاص أودعوا السجن بسبب ما جرى من أحداث. كان المجلس البلدي للفرنسيين يجتمع بمفرده، ومجلس بلدي للمغاربة دوره المصادقة على قرارات الأول (رَفْدْ الفاتحة لقول آمين). في اليوم الذي كان سيذهب فيه أعضاء المجلس الأخير لقول آمين، عقدوا اجتماعا بإحدى الدور بسيدي قدور العلمي في المدينة القديمة وممن حضره أحمد بنشقرون وبنعزو، كانوا بصدد مطالبة الفرنسيين بالعدول على ما خططوا له. وحصل أن سارع أحد المجتمعين بتسريب الخبر للفرنسيين.
عرفت مكناس، يوم فاتح شتنبر، مظاهرة صاخبة شاركت فيها ساكنة العديد من الأحياء خاصة تلك التي كانت تمر منها المظاهرة. توجهت المظاهرة في البداية، وكنت حاضرا فيها، إلى مقر المجلس البلدي الذي كان يوجد في مقر وزارة الشبيبة والرياضة الحالي المقابل لبنك المغرب، حيث كان يعقد ساعتها الاجتماع، وكان باشا المدينة وقتها يقال له الطنجاوي (ينعت بـ«رقيلو» بلهجة أهل شمال المغرب). ولم تتوقف المظاهرة إلا بنزول أعضاء المجلس، وبعدها توجهت المظاهرة إلى جامع الزيتونة بالمدينة القديمة حيث تفرقت الجموع، وأذكر أنه لم تقع أعمال شغب. لقد كانت مظاهرة سلمية، وبعدها قصد كل واحد بيته، لكن في اليوم الموالي، أي يوم 2 شتنبر، بدأت حملة اعتقالات واسعة. حيث اعتقل بنشقرون وبنعزّو والفقيه برادة ومَدَان السلاوي ومولاي إدريس المنوني وآخرون، لتنطلق مظاهرة، في البداية من جامع التوتة، قبل أن تنشطر إلى ثلاثة فرق، فرقة قصدت باب عِيسي، وفرقة قصدت باب زواغة، فيما توجهت الفرقة الثالثة إلى باب سيدي عْمَرْ بوعوادة. أنا كنت ضمن الفرقة الثالثة، وكان معنا أحد قدماء المحاربين، وكان مشاركا معنا في التظاهرة، الذي طلب منا الانسحاب حين علم أن سلطات الحماية أعطت الأوامر لإطلاق النار على المتظاهرين.
وهل انسحبتم؟
نعم. ولا بد أن أشير إلى أن الذين اعتقلوا حكم عليهم بثلاثة أشهر سجنا. وفي يوم 4 شتنبر امتلأ المسجد الكبير، ودفن الذين قتلوا في ساحة الهديم.
إذن هل يمكن القول إنكم بدأتم العمل الوطني انطلاقا من أحداث بوفكران؟
بالفعل، كانت مشاركتي في تظاهرة فاتح شتنبر إيذانا بانخراطي في العمل الوطني، ولما كان قد حصل الانشقاق، التحقت بالحزب الوطني، وبدأنا نتنافس داخل الحزب على من يستقطب أعضاء أكثر. كنت أشرف على خلية تلاميذ الثانويات، وعملت على تكوين خلايا في سيدي عْمَرْ والتوتة والقصبة، قبل أن ألتحق سنة 1942 بالكشفية الحسنية التي كان يرأسها إدريس المحمدي المحامي ذو الأصول المكناسية. وقد أسهمت الكشفية في التكوين الوطني، حتى إن سلطات الحماية قد منعتنا من لباس زي الكشفية، علما أنه كان من الضروري الانخراط في إحدى خلايا الحزب قبل الالتحاق بالكشفية لاسيما أن المنخرط فيها ينصاع لكل ما يطلب منه فيها، وكأنها نظام شبه عسكري، وزاد بذلك انضباط المنخرطين.
عندما يرد اسم العيساوي المسطاسي، يُذكر مرتبطا بوثيقة المطالبة بالاستقلال، نريد منكم أن تحدثونا عن سياق الوثيقة، وتجربتكم الخاصة في الموضوع، وكيف عشتم هذه المرحلة؟
ارتباطي بوثيقة المطالبة بالاستقلال، كوني كنت عضوا في مكتب الحزب، ونشاطي في الحزب كان مرتبطا بالشبيبة الاستقلالية. فكيف وقع عليّ الاختيار لأكون من الموقعين على الوثيقة؟
لا أتذكر بالتفصيل، لكن يمكن أن أقول إنه كان ثمة ارتباط وثيق ما بين الحزب الوطني ومحمد الخامس، وكان هناك تنسيق بين الطرفين، خاصة بعد مؤتمر آنفا، حيث بدأت فكرة الاستقلال، والحديث عن شروط إنضاجها.
كم كان عدد الموقعين على الوثيقة من مكناس؟
كنا خمسة، إدريس المحمدي، الكاتب العام للحزب الوطني لمكناس ونواحيها، ومن المشاركين في صياغة الوثيقة، والذي سيصبح وزيرا للداخلية بعد الاستقلال. وأحمد بنشقرون، وأحمد بنعزو، وعمر بنشمسي، وعبد ربه.
ما هي الصفة التي كنتم تحملونها في مكتب الحزب؟
كنت مسؤولا عن التعليم الحر في مكناس، والذي كان معتمدا في ثلاث مدارس هي الإسماعيلية والسقاط والنهضة.
عندما نتحدث عن وثيقة المطالبة بالاستقلال والتنسيق بين حزب الاستقلال والسلطان في هذه المرحلة، يطرح سؤال: لماذا تقدم الوطنيون في المنطقة السلطانية والمنطقة الخليفية بثلاث عرائض للمطالبة بالاستقلال وليس عريضة واحدة؟
قبل أن أجيبك على هذا السؤال، يجدر بي أن أذكر أني سافرت في بداية يناير 1944، ربما يوم 5 يناير، إلى الرباط لزيارة أخي، وحين كنت معه في البيت أتى بالمصحف الكريم وطلب مني القسم، فقلت له لماذا فأنا سبق لي أن أديت القسم؟ [يقصد القسم الخاص بالانخراط في الحزب] فأجاب: لابد أن تقسم، لأننا سنطالب بالاستقلال. علما أن المطالبة به جاءت بالتنسيق مع السلطان بن يوسف.
أعيد طرح نفس السؤال، لماذا كانت ثلاث عرائض؟
كانت هناك عريضة أولى، وقعها إلى جانب بعض الاستقلاليين شخص واحد من حزب الشورى والاستقلال، للأسف صحتي تخونني ولا تمكنني من البحث في مكتبتي حتى أثبت لكم هذا الأمر.
قبل هذا، كان لعمر بنعبد الجليل ابن أخت يدرس في فرنسا، وهو حسن بنشقرون، وأوكلت له مهمة الذهاب إلى إيدزر لمقابلة الوزاني الذي كان منفيا هناك. وبالفعل تم ذلك، وبذل بنشقرون جهوده للاتصال بالوزاني، وفاتحه بشأن توقيع العريضة. لكن الوزاني لم يوقع بدعوى أنه غائب عن المشهد السياسي منذ مدة، وأن ثمة نوابا له في مكناس يمكن مفاتحتهم في الموضوع ومناقشته معهم.
على هذا الأساس، اتصل أحمد بنشقرون بالفقيه برادة، وطلب منه التوقيع على العريضة، غير أن الأخير رفض.
أما العريضة الثانية، فقد قُدِّمَ طلب الاستقلال دون أن تعلم فرنسا بأن هناك حركية، أي أن الموضوع كان في إطار السرية، ولما قدَّم السلطان وثيقة المطالبة بالاستقلال إلى مستشار الإقامة العامة، رد الأخير متهكما أن الوثيقة وقعها 66 شخصا فقط، وهؤلاء لا يمثلون المغرب. حينها أعطى أمره إلى جميع الهيئات لرفع برقيات تأييدية للوثيقة بما فيهم هيئات سواسة وهيئات القضاء التي كان يرأسها الفقيه القاضي محمد بن أحمد العلوي الذي طلب من مخزني أن يمرر العريضة على العدول والعلماء يطلب منهم توقيع العريضة. وكرد فعل، أقام الفرنسيون مركز مراقبة في الطريق المؤدية من مكناس إلى الرباط وتحديدا بُعَيْدَ تولال لمنع القاضي الذي كان يحمل توقيعات العدول والعلماء إلى الرباط. وبالفعل، تم توقيفه، وطلب منه العودة إلى مكناس. ولما كان السلطان متتبعا للأمر، وأخبر بما جرى، تدخل لدى الفرنسيين للسماح للقاضي بالسفر إلى الرباط.
أما العريضة الثالثة، ففي الوقت الذي قُدِّمَ طلب الاستقلال، كان بوطالب وقتها أستاذا للأمير الحسن، وكان السلطان يحضر بعض الدروس، فسأل بوطالب: لماذا لا يظهر لكم أثر؟ فكان ذلك إيحاء من السلطان للشوريين لتقديم وثيقة للاستقلال، علما بأنهم لم يكونوا يرغبون في ذلك.
في 11 يناير شددت سلطات الحماية مراقبتها، ولم تقبل تمرير العريضة، وعندما قدمت العريضة مارست حملة قمع واسعة في وسط الوطنيين يوم 29 يناير.
يجب الإشارة أولا إلى أن الأمريكيين كانوا قد نزلوا بالشواطئ المغربية، وعقد مؤتمر أنفا بالدارالبيضاء، فاعتقد الفرنسيون أن أمريكا هي من تحركنا، وعندما تحققوا بأن لا علاقة لنا لا بالأمريكيين ولا بالأنجليز، جاءت حملة 29 يناير.
هل عشتم الحملة القمعية لمظاهرات 29 يناير؟
نعم.
ماذا عن الأسماء التي أضيفت في بعض عرائض المطالبة بالاستقلال؟
أبدا، هناك 66 موقعا، كانت تصدر أسماؤهم دائما في جريدة الاستقلال بمناسبة ذكرى عيد الاستقلال. والأسماء الأخرى ليسوا من الموقعين وإنما من المؤيدين وليسوا من الرؤساء. ولم يضف أي اسم للعريضة التي قدمت إلى السلطان والإقامة العامة. فإذا تعدى الموقعون في عرائض أخرى 66، اعلم ساعتها أن تلك الإضافات كاذبة.
وبالمناسبة، أنجزت المقاومة كتابا في الموضوع، لك أن تقارن بين الأسماء الواردة فيه والعريضة التي وقع عليها 66 شخصية. مرة جاء عندي مصطفى الكثيري (المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير) للمنزل لزيارتي، فقلت له إن كنت جئت عندي لزيارتي فمرحبا بك. أما إذا جئت لزيارتي بصفتي مقاوما فلم يسبق لي أن كنت كذلك، فأنا وطني.
في سنة 1947 حدثت في الدار البيضاء ما يسمى بضربة «سالِـكان»، بعدها بدأ المستعمر في استخدام القوة (الرصاص) بشكل مفرط، وبدأ بعض المغاربة يفكرون برد مماثل يستخدم فيه السلاح.
في سنة 1947، انتبه الفرنسيون إلى الخطابات المعادية لهم، وأقروا أن كل واحد أراد أن يلقي كلمة في محفل ما عليه أن يطلعهم عليها بشكل مسبق. لما ذهب محمد بن يوسف إلى طنجة لم يطلعهم على مضمون خطابه، وذكر أنه مندمج في الجامعة العربية. في ذلك الوقت، لاحظ الفرنسيون تغير موقف السلطان منهم («هذا دَوَّرْ وجهو ما بْقَاشْ وجهو عَنْدْنَا»)، فبدأ الصراع مع السلطان، حيث حاولوا تسميمه، ولم ينجحوا، فقام حزب الاستقلال بالتحري عن الذي كان وراء عملية التسميم، فتوصلوا إلى أن الطباخ هو الفاعل، وعند محاولة إلقاء القبض عليه، ألقى بنفسه من النافذة فمات. واكتشف أنه من مدينة مكناس، من درب القصيبة في حي النجارين بالمدينة القديمة. بعد ذلك، ألزموا أحد الأشخاص المدعو «فريفرة»، الذي كان كاتبا في الإقامة العامة، بتوزيع مناشير معادية للسلطان ترميه بعبارات قدحية، لتشويه صورته عند المغاربة. وقد ألقي القبض على هذا الشخص، ومثل أمام السلطان فاعترف بالمنسوب إليه، مبينا أن فعله تم بالإكراه. فزاد تشدد السلطة الاستعمارية مع السلطان.
في أواسط نونبر 1952، يوم 16 أو 17 منه، ذهبت رفقة المحجوب بن الصديق ومصطفى بن أحمد، مدير مدرسة النهضة، لزيارة إبراهيم الروداني في الدار البيضاء فأخبرنا أن المدينة على أتم الاستعداد (للنُّوضَة) للخروج في مظاهرات مؤيدة للسلطان. وكان قرار الوطنيين هو التريث حتى إذا ما تم مس شخص محمد الخامس تًفَعَّلُ هذه الخطوة. ويظهر من خلال تأجيل المظاهرات المؤيدة للسلطان أن المسيرين كان لهم بعد نظر، فمحمد الخامس لم يمس بشكل مباشر إلا يوم 20 غشت 1953.
بعد نفي السلطان، ظهر للوطنيين أن يمروا لاستعمال القوة المسلحة ضد سلطات الحماية، وهذا ما لم تكن كل قيادة حزب الاستقلال متفقة عليه، هل هذا صحيح؟
قيادة الحزب كانت متفقة على الرد بقوة السلاح إذا ما مس رمز البلاد، وما قام به علال بن عبد الله هو بإيعاز من حزب الاستقلال.
ماذا عن تجربة العيساوي المسطاسي مع النفي والمعتقلات؟
في نونبر 1952 تم إلقاء القبض علي في كوميسارية مكناس رفقة أخي العربي. بعد ذلك، وفي آخر أكتوبر تم نفيي إلى الرباط، ثم ألحقت، رفقة أخي العربي، بمعتقلات إفران الأطلس الصغير وبويزكارن وﯕلميم فقلعة مـﯕونة واغبالو نكردوس قضيت فيها جميعها مدة ثلاث سنوات ونصف.
وبقيت في هذا السجن مع أربعة معتقلين من مكناس واثنين من نواحي وجدة.. وكان مجموعنا أربعين. عندما جمعوا المعتقلين لوضعهم في سجن بويزكارن، جاء أحد الضباط، وشرع في إسماعنا كلاما غير لائق، وكان معنا أحمد اليزيدي وهو قبطان، فانبرى للرد عليه، وطالبه بالتزام الأدب. وقال له: عليك أن تعرف من تخاطب، فأنا من خريجي المدرسة الحربية بمكناس، وأنا الذي قلت لجنرالكم «جوان»: «Merde»، فانصرف لحاله.
عندما كنت في سجن بويزكارن، جاءنا مفتش الشرطة، وسألني: لماذا تم القبض عليك رفقة أخيك؟ كان ردي: أنتم المخولون للإجابة عن هذا السؤال، أما أنا فكل ما يمكن أن أقوله هو أن الشرطة اعتقلتنا ووضعتنا في الحجز. قال: هل أنت وطني؟ قلت: عجيب هذا السؤال.قال: لماذا؟ قلت: هل من يدافع عن وطنه مصيره هو السجن؟ فتوقف عن الحديث، وانسحب.
عندما تم نفي محمد الخامس، ساعتها كنت مسجونا في بويزكارن، وبمناسبة عيد الأضحى، أرسلوا لنا جريدة السعادة فيها صورة محمد الخامس خارجا من قصره بمعية عائلته والعسكر من ورائهم. بعد ذلك، تم استدعائي، رفقة أخي، وقد خمنت، بعد الذي اطلعت عليه في جريدة السعادة، أن موضوع الاستدعاء هو التوقيع على بيعة ابن عرفة، واتفقت معه أنه من المستحيل أن نقوم بذلك.
فعندما استقبلنا القبطان رئيس ناحية بويزكارن، أخبرنا أنه جاءتنا رسالة يلزمنا توقيعها، فطلبت الإطلاع على فحواها، فرفض ذلك، وبدورنا رفضنا التوقيع. فاستشاط غضبا من جراء موقفنا، وعزلني عن أخي، وشرع في إطعامنا الخبز بمفرده. وعاد في الغد لتهديدنا، فإما التوقيع أو النفي إلى الصحراء، فكان التشبث بموقفنا. فقلت: وهل نحن الآن في الجنة؟ لا تحاول معنا مرة أخرى. وقلت أنه عندما وضعنا باب منزلنا من وراء ظهورنا، فقد استعدينا للإعدام. وقد تبينا بعد ذلك، من خلال كاتب القبطان، أن مضمون الرسالة فيها إقرار باعتقالنا في بويزكارن ليس إلا.
في أي معتقل اجتزتم أطول مدة من الاعتقال؟
كان ذلك في سجن كلميم، من شتنبر 1953 إلى دجنبر 1954. وكنا في هذا السجن أربعة عشر فردا. وكانت ظروف السجن لا بأس بها حيث زودونا بطباخ، وكان يحرسنا ضابطان من أكادير، وقالا لنا بأنهما مستعدان للتعامل معنا بالطريقة التي تروقنا، وكذلك كان. ولم يحدث أن وقع بين المعتقلين أي خصام، بل على العكس كان هناك انسجام لافت. والحصيلة أنها كانت تجربة سجنية مميزة.
في المقابل، ما هي أصعب محطة في تجربتكم السجنية؟
أصعب محطة هي بويزكارن، حيث وضعوني رفقة أخي في هري مسقف بالزنك، يفتح لنا مرتين في اليوم، الأولى في العاشرة صباحا، والثانية خلال العصر، في المرة الأولى نخرج لقضاء حاجتنا، خاصة أنه لم يكن لدينا في مكان الاعتقال ما يمكننا من ذلك سوى دلو «سطل»، رفقة آخر مملوء بالمياه يجدد يوميا أثناء العصر. انتهت تجربتي السجنية، وأطلق سراحي، رفقة ما تبقى من المعتقلين، في 14 يوليوز 1955، ولعل ذلك كان بمناسبة عيد الجمهورية الفرنسية، في لحظة ترتيبات مذاكرات إكس ليبان.
هل في علمكم ما جرى من تعذيب في بعض المراكز كدار بريشة؟
ما هي دار بريشة؟
شهدت سنة 1959 عدة أحداث بصمت تاريخ المغرب المستقل، ما تعليقك على انشقاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال؟
انشقاق الحزب لم يكن وليد هذه السنة، بل تعود جذوره إلى ما قبل الاستقلال. فعندما كنت معتقلا في اغبالو نكردوس، بدأت أشعر أن الانشقاق يدبر له، لاحظت ذلك في الحركات والأقوال، اختفت الحركات وبقيت الأقوال من قبيل أنه لا يمكن أن يظل هناك حزب وحيد، وأنه لا بد أن تكون هناك أحزاب أخرى. وكان من رأيي أن نحصل على الاستقلال أولا، وأن تقوم القيادة بتسيير الحزب، وبعدها يتم التفكير في الاستمرار في الوحدة أو في الانشقاق.
وقد أخبرت الحزب بما كان يجري في معتقل اغبالو نكردوس، ولم يقبلوا أقوالي. وبررت ما قلته بأني أديت يمينا لكي أخلص لحزب الاستقلال؟
ويجب ألا ننسى أنه بعد الحصول على الاستقلال، سعت بعض الأطراف الرسمية إلى شق حزب الاستقلال. ا بد أيضا من القول إن كثرة الآراء تفسد الوحدة، هذه قاعدة مسلمة.
ما رأيك في مذكرات الوطنيين والمقاومين بين تضخم الأنا ومنطق التخوين؟
«بغيتيني نطيح بالعضام، لا عين شافت لا قلب وجع».
هل عدم اطلاعك على تلك المذكرات هو موقف من مضامينها؟
نعم، بكل تأكيد. هل أقرأ الكذب؟ يقال إن أحرضان كتب مذكراته، ذكر فيها ما جرى من أحداث. وهو كاذب.
أنا عرفت الحزب الوطني منذ تسميته، وخبرت اتجاهه، وانخرطت فيه، وأديت اليمين لخدمته والسير مع أعضائه، فلماذا سأقرأ هذه المذكرات؟ حتى أن بعضا منها كتبه أناس لم يخبروا العمل الوطني.
في المقابل، لماذا لم تصدروا مذكراتكم؟
لا أتوفر على مذكرات وإنما ذكريات/ خواطر، ما رسخ في الذهن. أفضل عدم نشرها، على الأقل ما دمت حيا.
ماذا عن مسارك السياسي مع حزب الاستقلال؟
بعد الاستقلال، وتحديدا في أكتوبر 1957، نأيت بنفسي عن الخوض في العمل السياسي، ذهب كل من المحمدي وبن عزو وعمور والسرغيني وأحمد بنشقرون، ولم يعد أحد يحضر اجتماعات الحزب، فقبل الاستقلال كانت الاجتماعات أسبوعية، وكل لجنة تقدم تقريرا بحصيلة عملها. وبعد الاستقلال، اختفى كل ذلك. وأصبحت هناك اختلالات مالية في الحزب. السبب إذن في ابتعادي عن العمل السياسي، وهذا دونته وما زلت أقوله، هو حزب الاستقلال، والمسائل التي أصبح عليها. والحالة التي وقعت في المغرب، الخطأ فيها يعود إلى حزب الاستقلال.
كيف؟
في المفاوضات «بْغَاوْ يْلَعْبُو جُوجْ وضَامَة». كان للمولى الحسن رأي في المفاوضات، واتجاه أبيه مخالف لاتجاهه. فمحمد الخامس كان يقول: «أريد أن أملك لا أن أحكم»، نْكُونْ ملك نعم، والحُكم نَعْطِيه لَصْحابُو». وهذا ما لم يوافقه فيه الأمير.
أقول لحزب الاستقلال إن خطأكم هو أن محمد الخامس نُفي بصفته ملكا للمغرب، ورجع بصفته ملكا للمغرب، فإما أمسكوا زمام الأمور، وكونوا أهلا لذلك، أو اذهبوا لحال سبيلكم («خودو الحكم وقدوا بيه ولا سيرو فحالكم»). «لمَّا دَخْلُو بْدَاوْ تَيْخَرْبْقُو وَيْخَلَوْضُو، فاض عْلِيهُمْ لْمَا». لم تكن هناك نية صادقة في تدبير الحكم. أقسم، البارحة أخذت صورة أحد الأشخاص [لم يرد الإفصاح عن اسمه]، وشرعت في التفكير، ما هو العمل الذي قام به حتى أصبح موظفا في وزارة الخارجية، وله الكلمة. أعني أن الفساد نشأ منذ البداية، في ذلك الوقت ابتعدت عن العمل الدبلوماسي، ودخلت القضاء.
كيف تقرأ تجربة حكومة عبد الله إبراهيم؟
كنت أعرف عبد الله إبراهيم بأنه من الزعماء الشباب لحزب الاستقلال بمراكش، تعرفت عليه أكثر بمنزل أخي من أمي في الرباط بالقرية الحبوسية (ديور الجامع) الذي كان مركزا لجميع الوطنيين. وبعد الانشقاق، انحاز عبد لله رفقة آخرين إلى حزب الاتحاد، عموما فالشيء حين يكبر يحدث فيه انشقاق.
عبد لله إبراهيم «غلط فراسو»، ولم تطل حكومته. لقد كان الحسن الثاني داهية في السياسة، اعتقد أن عبد الله إبراهيم يمكن أن يكون له تأثير إما في الاتحاد أو في حزب الاستقلال، اتفق مع المحجوب الذي لم يكن له تأثير على أي كان. ولما تبين للحسن أن عبد لله إبراهيم لم ينجح فيما كان يفكر فيه/ يخطط له، أنهى مهمته.
هناك من يرى في أحداث 23 مارس 1965 ليس مجرد احتجاج على دورية وزير التعليم وإنما تعبير عن خيبة أمل من ثمرات الاستقلال إن على المستوى المادي/ المعيشي أو الديموقراطي. ما رأيك؟
في سنة 1961 جاءنا ظهير، وكنت وقتها في القضاء مضمنه أن بيع الخمر للمسلمين ممنوع، وأن جميع المراسلات تكون بالعربية. ولما توفي محمد الخامس، لم ينفذ شيء من ذلك الظهير.
في إحدى المحاكم، أصدر قاض حكمه بإغلاق محل لكونه ثبت أنه يبيع الخمر للمسلمين. ولم يمض شهر أو شهران حتى أعاد فتح أبوابه دون اعتبار لرأي القاضي. لقد قيل للحسن الثاني، إذا أردت أن تتطور بلادك اعتمد على لغتها. وقال له وزير التعليم عبد الكريم بنجلون، أولئك المصريون الذين اتفقت معهم عليهم ألا يأتوا للمغرب، فأنا لا أرغب في توظيفهم. وعندما لم يحصل اتفاق بينه وبين الملك، غادر الوزارة. ومحمد بن الحسن الوزاني، تولى بدوره منصبا وزاريا، ولما وقف على سوء تسيير شؤونها غادرها وهو لم يكمل فيها ستة أشهر.
بقيت وفيا لانتمائك لحزب الاستقلال، كيف تنظر لظاهرة الانشقاقات الحزبية؟ وكيف تقرأ المشهد المغربي بمنظار الرصيد التاريخي؟ وماذا عن وضعية حزب الاستقلال الآن؟ هل فعلا تم تخليصه من هيمنة «فاسة» لصالح «العروبية»؟
عندما حدث الانشقاق داخل حزب الاستقلال، جاء أحدهم عندي ساعيا إلى استقطابي لحزب الاتحاد، وتركته حتى أنهى حديثه، فقلت له: أنا أنهيت علاقتي بعالم السياسة خاصة وأني أعمل الآن بالقضاء، ويحرم علي أن أميل إلى طرف دون آخر سواء كان استقلاليا أو غيره.
عندما زارتني اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال يوم الاثنين 20 دجنبر 2013 بمناسبة الذكرى الثمانين لتأسيس الحزب، قلت لحميد شباط: «لا ينقصنا الرجال، وإنما تنقصنا العقيدة».
ما تقييمكم للأوضاع في المغرب؟
أرى أن الأوضاع في المغرب في هذه المرحلة ينطبق عليها المثل القائل «مَنْ الخِيمَة خْرَجْ مَايَل»، بما يفيد أن الأمور منذ الاستقلال لم تسر على الوجه المطلوب. وبعد الاستقلال، لم نشيد بناءنا على أساس سليم، وظلت تبعات ذلك تتراكم كمطرح للنفايات إذا وضعت فيه الأزبال يوما بعد يوم يحدث فيها تراكم، وتصبح كالجبل، والذي عليه مسؤولية تنظيفها غير موجود، ليس هناك رجال للقيام بذلك.
لم يكن هذا الوضع هو القصد من العمل الوطني [قالها بحسرة شديدة].
حاوره الطيب بياض ومحمد ياسر الهلالي