لم يسبق، أبدا، أن عبر الشارع عن نفسه بالكثير من الضجيج والغضب، والكثير من الدم والدموع. كان للدار البيضاء المتمردة، في ذلك اليوم 23 مارس ،1965 موعد مع فصل مأساوي آخر. لقد تواترت الأحداث في هذه المدينة، منذ فترة طويلة، إلى حد أنها أصبحت عنصرا أساسيا من هويتها. وذلك ما أعطى للمدينة، التي نمت كالفطر، عمقا تاريخيا تستحقه عن جدارة، لأنها أدت الثمن غاليا.
استيقظت الدار البيضاء في صباح ذلك اليوم على إيقاع آخر. لقد نزلت حشود هائلة إلى الأزقة والشوارع كأنها تداولت فيما بينها كلمة سر ما، في الوقت الذي كنا بعيدين بسنوات ضوئية عن الأنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي .تملك الغضب الناس، وكان نزولهم إلى الشارع عفويا وتلقائيا. كانت مطالب المتظاهرين، خاصة الشباب ومعهم فتيان، بسيطة للغاية، وأساسية تقريبا: الشغل، عدم ضرب القدرة الشرائية، توفير مرافق عمومية ناجعة وفعالة، خاصة في مجالي الصحة والتعليم، وأيضا إمكانية الحصول على سكن لائق يخرجهم من أحياء الصفيح التي تناسلت على هوامش المدينة.
وصلت هذه المظالم التي عاناها المهمشون نقطة عدم الرضا ونفاذ الصبر، مما أدى في النهاية إلى انتفاضة شعبية حقيقية. في مقابل ذلك، كان هناك نظام معزول في برجها العاجي، ومتحصن وراء يقينياته الكاذبة، مع جرعة زائدة من الاحتقار لمن رأى فيهم أنهم “غوغاء“، معتبرا إياهم مجرد حاقدين وناقمين. يعني ذلك أنه لا توجد ذرائع أخرى تحول دون استعمال القوة. هكذا، انتشرت عناصر تابعة للقوات المسلحة الملكية، ورابطت في الأماكن والمناطق الحساسة تحت القيادة الفعلية للجنرال محمد أوفقير، قبل أن تباشر عملياتها القمعية الرهيبة ضد أفراد عزل. فسقط الكثير من الضحايا إلى حد أن المستشفيات لم تعد قادرة على استيعاب الجرحى والمصابين، كما أن مستودعات الأموات امتلأت عن آخرها، مما اضطر معها أوفقير وزبانيته إلى إحداث مقابر جماعية ما يزال بعضها مجهولا إلى اليوم. كنا، حينها نعيش عقد الستينات من القرن الماضي، حيث كانت كل المخاطر تحدق بالمغرب المستقل. انتهى إحجام السلطة عن أي حوار وميلها الغريزي تقريبا إلى القمع إلى سد الطريق أمام تنظيم الحياة السياسية، وبالتالي إلى سد كل قنوات الحوار مع باقي الفرقاء. بل إنها عمدت إلى إضعاف أحزاب المعارضة والنقابات، خاصة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد المغربي للشغل. ثم وجد الاتحاد الوطني لطلبة المغرب نفسه منخرطا في مهمة سياسية تتجاوز، بشكل كبير، طبيعته وإمكاناته. لكنه استطاع، مع ذلك، أن يصبح مدرسة لتكوين جيل كامل من المناضلين أعطوا محتوى وتوجها ونفسا جديدا لحركة اليسار على امتداد عدة سنوات.
كانت الانتفاضة الشعبية ليوم 23 مارس من عام 1965 تندرج في سياق هذا التطور، إذ كان لها ما تلاها، حيث عمل عدد من المناضلين، ابتداء من عام ،1970 على استلهام تلك الأحداث، وأسسوا بعد فترة من المخاض “حركة 23 مارس“ قصد تخليد ذكراها، مع إعطائها عمقا إيديولوجيا وأهمية سياسية بمرجعية ماركسية واضحة. غير أن برنامجها لن يصطدم، فقط، بقمع بوليسي أصبح أكثر شراسة، بل أيضا بتفجر خلافات عميقة داخل حركات اليسار نفسها. وحتى الاستثناء السياسي الذي شكله حزب منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، داخل حركة 23 مارس، لم يسلم من هذه القاعدة غير المكتوبة، التي يبدو أنها وُلِدت بعيب خلقي. وبالرغم من نشاطه في إطار القانون وكان له حضور وازن في الشارع وصحيفة ناطقة باسمه إلا أن منظمة العمل الديمقراطي الشعبي لم يستطع مقاومة الضربات التي كان يتلقاها من الخارج، وانتهى بشق وتفجير صفوفه الداخلية.
اليوم، يظهر الحزب الاشتراكي الموحد كوريث أخير لـ“23 مارس“، ويتملكه طموح يتمثل في تجميع وتوحيد شتات اليسار، وهو تحدي حقيقي. مهما كان الأمر، فإن الحقيقة التاريخية ليوم 23 مارس 1965، ستعيش دائما في امتداداتها السياسية.
يوسف شميرو
مدير النشر