مع أن النقاش حول حرية الإفطار العلني في رمضان، أصبح عادة متكررة كل سنة في هذا الشهر، إلا أنه لم يفقد راهنيته وإثارته للانتباه، بل على العكس من ذلك، أتوقع ارتفاع حدته خلال السنوات المقبلة. لا يدرك الكثير ما يعرفه المغرب من تحولات على مستوى القيم وأنماط العيش، وما يشهده من صراع خفي بين مجتمع تقليداني محافظ، وبين أجيال حديثة نشأت زمن المعلومة والحرية والانفتاح، وبدأت تبحث لنفسها عن مساحات وفضاءات ومجتمعات موازية، تمكنها من ممارسة قناعاتها واختياراتها، وهو ما جعل مطعما كالذي تم اقتحامه بالدار البيضاء نهاية الشهر الماضي يفتح أبوابه للمفطرين بعذر وبغير عذر، قبل تلقي السلطات المحلية لعدد من الشكاوى في الموضوع، مما أجبرها على التدخل وتطبيق مقتضيات الفصل 222 من القانون الجنائي المغربي.
ينص الفصل المذكور على أنه «يحكم بالحبس من شهر إلى ستة مع الغرامة على كل من عرف باعتناق الدين الإسلامي، وجاهر بإفطاره في نهار رمضان، في مكان عمومي ومن غير عذر شرعي»، ورغم أن مصطفى القادري يصر على أن تشريع هذا القانون لم يكن زمن الاحتلال الفرنسي، وأن تسنينه لم يكن إلا مع أول قانون جنائي مغربي بداية الستينات من القرن الماضي، إلا أن الباحثين يكادون يتفقون على أن نظام الحماية الفرنسي هو من وضع القانون سنة ،1913 وتم تعديله سنة 1933 من خلال إدارة الماريشال ليوطي لشؤون الإقامة العامة.
يتحدث دانييل ريفي الباحث الفرنسي، في كتابه “ليوطي ومؤسسة الحماية الفرنسية بالمغرب“، عن الدواعي التي دفعت ليوطي لسن كثير من القوانين الدينية بالمغرب، حتى أنه قال: «لم أتمكن حتى الآن من إحكام القبضة على المغرب، إلا بفضل سياستي الإسلامية .إني متأكد من جدواها، وأطلب بإلحاح ألا يفسد علي أحد لعبتي»، ذلك أنه أدرك بدهائه أنه لا يمكنه استقطاب رؤوس المجتمع، ولا استمالة عامة الناس، ولا السيطرة على العلماء وشيوخ الزوايا وكل من يساهم في توجيه المشاعر الجماعية للشعب المغربي، إلا باعتماد ما سماه بـ“السياسة الإسلامية“، والقائمة على مبدأ التوقير والاحترام للدين والعادات ومؤسسات الحكم والمؤسسات الاجتماعية التقليدية كالقضاء والأوقاف والمدارس، حتى لا يعم الشعور بأن فرنسا تريد إحداث قطيعة بين المغاربة وموروثهم الديني والاجتماعي.
وقد كان قانون تجريم الإفطار العلني ضمن مخرجات هذه السياسة، ولم يكن موجها إلى المغاربة، وإنما كان موجها إلى المعمرين الفرنسيين خشية استفزاز السكان المحليين.
ومثل ذلك ما أصدره ليوطي من منع غير المسلمين من دخول المساجد، مع أنه ليس في أصل الدين وفقهه ما يمنع غير المسلم من ارتياد المسجد.
الفصل 222 ليس شريعة دينية ولا فقها إسلاميا إذن، لكن بالمقابل لا يمكن في الوضع الحالي عدم مراعاة ما يمثله صيام رمضان في وعي المغاربة، بعد تحوله من عبادة دينية إلى طقس ثقافي واجتماعي، وهو ما يفسر نوعا ما تشدد المغاربة في الصيام ورمضان، ما لا نجده مع عبادات أخرى أعظم شأنا في النصوص الدينية كالصلاة، وفي مجتمعات أخرى أكثر محافظة كموريتانيا على سبيل المثال، فرمضان في مخيال المغاربة ليس عبادة يمتنع فيها الفرد عن بعض الشهوات فقط، بل هو اجتماع العائلة حول موائد الطعام، وأداء صلاة التراويح، والبحث عن ذوي الأصوات الندية من “نجوم” الأئمة والمقرئين، ومراسيم ليلة القدر، والإقبال على الجلباب والقميص والخمار وغيرها من الألبسة الدينية، كل هذه الطقوس تجعل لعبادة الصيام سلطة معنوية جماعية، تجعل الخارج عنها شاذا مخالفا للجماعة، وهو ما يفسر التعامل معه بكل ذلك العنف.
هذا الواقع الاجتماعي والثقافي لا يمكن تجاوزه، وقد يكون في تطبيق المادة 222 حماية للمفطر من تعرضه للاعتداء من طرف بعض المتشددين، لكننا أمام تحولات كبرى في علاقة المجتمع بالدين، وفي طبيعة المجتمع نفسه، ونزوعه نحو مزيد من الفردانية والتمرد على سلطة الجماعة، مما يستلزم كثيرا من التوعية والتنوير، وحرص الدولة على أن تستوعب الجميع دون استثناء، وأن تكفل لكل مواطن حقه في ممارسة قناعاته بكل حرية، مع حماية السلم الاجتماعي والأمن الروحي.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي