صدقت التوقعات. لم تمض سوى ثمانية أشهر على انتخابات 7 أكتوبر لتهتز البلد على وقع أول أزمة. تحول الحادث المأساوي لوفاة محسن فكري في الحسيمة إلى أزمة سياسية لا تكف عن التفاعل. في المنطلق، لم يكن مطلوبا سوى تطبيق القانون، إقامة محاكمة عادلة كفيلة ببعث السكينة في روح فكري، وأفئدة كل الذين تألموا لمصيره. لتنصرف المؤسسات المسؤولة، محليا ومركزيا، لمعالجة المطالب الاقتصادية والاجتماعية التي انبعثت مع هذه المأساة.
لا يتصور عاقل أن الدولة يمكنها أن تفتح الخزائن، بغتة، لتلبي مطالب الشارع. المسألة مرتبطة بالسياسة العمومية، وهذه لا تكون ذات مصداقية إلا في نظام ديمقراطي. لأنه ببساطة النظام الوحيد الذي يضمن حدا أدنى من الرقابة على أموال المواطنين، التي يعهد للدولة باستثمارها ورعايتها… ليس في الأمر أي سر. الانتقال الديمقراطي لا يعني سوى الانتقال نحو سيادة هذا النظام التمثيلي. حتى إذا طرأت أزمة مثل تلك التي هزت الحسيمة، يتصدى لها نواب يمثلون الإرادة الشعبية، المعبر عنها تعبيرا حرا يسائلون رئيس حكومة تخضع له الإدارة بكافة مستوياتها. مساءلة تبدء بمراجعة وتقييم ما لم يتحقق، ليبنى على الشيء مقتضاه، مرورا بمحاسبة أي “خادم دولة” يثبت تقصيره، وانتهاء باستقالة الحكومة بأكملها إن اقتضى الأمر ذلك. أليس مدهشا أن يكتشف الناس فجأة أن المنطقة التي ظلت تقدم لسنوات طويلة، في صورة الورش المفتوح لمشاريع الخير والنماء، إنما يعيش أبناؤها معيشة ضنكا؟ أين ذهبت الأموال التي قيل إنها صرفت هناك؟ هل صرفت حقا؟ ماذا عن باقي ربوع الوطن؟ أين صرف ملايير الدراهم التي تم توفيرها منذ 2012 بفضل التقشف في نفقات المقاصة والتشغيل والاستثمار العمومي…؟ أم أن المخططات القطاعية والأوراش الكبرى سياسة عمومية فاشلة، بهذا القدر أو ذاك، فينبغي إذن تقييمها وإعادة ترتيب الألويات؟
بدل أن تتأزم الأوضاع في الشارع، يقع “الحراك” في البرلمان، الذي لا يمكنه إلا أن يحفظ المصلحة العامة، متى كان يعبر تعبيرا صادقا عن الإرادة الشعبية. هذا الأفق، تحديدا، هو ما يرفضه رعاة المنهجية السلطوية، ويحاربون بإصرار كل من يسعى لبلوغه. توسيع المشاركة السياسية، لا يعني بالنسبة إليهم سوى توسيع المشاركة في الرقابة على أموال المواطنين. المدهش أكثر، أنهم يصرون اليوم على تأكيد رجعيتهم هاته، بإبعاد رئيس الحكومة تماما، حتى لكأنه يبدو مرؤوسا من وزيره في الداخلية! ليرتدوا إلى خطوط الدفاع الأخيرة: فقهاء المساجد ونصوص القانون الجنائي. قبل انتخابات 7 أكتوبر الماضي، كان السبيل يبدو مفتوحا نحو بلوغ ذلك الأفق. لكن الأزمة المفتعلة، التي تلت إعلان أمين عام حزب العدالة والتنمية فوز حزبه بالانتخابات مساء تلك الليلة، أظهرت صمود المنهجية السلطوية. سوى أن رعاة هذه المنهجية الرجعية لا يدركون أن المجتمع يسير نحو الأمام، مؤكدا قدرته على المشاركة السياسية، دفاعا عن مصالحه. لم يدركوا بعد، يا للعجب، أن المشاركة “الافتراضية” على الأنترنت تقود حتما نحو المشاركة الفعلية، وأن لكل تقنية أثر لا يمكن تجاوزه. بل لا يدركون، حتى، أنهم باتوا يؤججون المشاعر الهوياتية الإقليمية المفتوحة على أسوأ الاحتمالات. لذلك ستظل المنهجية السلطوية هشة، ولو استطاعت تخطي هذه الأزمة، ما لم تتصالح مع الواقع. واقع أن المغاربة يسيرون بإصرار، ولو بارتجال وعفوية، نحو الأفضل.
إسماعيل بلاوعلي