شكل الصراع الذي احتدم بين أسرتي آل الجامعي وآل أحمد، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نموذجا معبرا عن «تطاحن» الأسر المخزنية التقليدية. فعندما تفوق أبا حماد، حفيد «مول أتاي» على خصومه من آل الجامعي لم يتورع في إذلالهم وإنزالهم من علياء النفوذ والجاه والسلطة إلى حضيض المهانة والإذلال.
سعت الأسر المخزنية التقليدية، بغض النظر عن أصولها الاجتماعية ومرتكزات نفوذها المخزني، إلى الذود عن حظوتها لدى السلاطين، والسعي إلى إزاحة كل من يقف في طريق هذا المسعى، فنشأت العداوات والخصومات بينها، واشتدت الدسائس والمؤامرات، وعملت على إزاحة، وأحيانا تصفية بعضها البعض. وإذا كان هذا التطاحن يدفع هذه الأسر إلى “أكل بعضها البعض”، فإن من الباحثين من يرى فيه حرمانا للمخزن من بعض أطره، فيما يرى فيه البعض الأخر فرصة للتخلص من بعض الأسر التي قد تستأسد وتستبد بشؤون الحكم، وفرصة مواتية يجدد عبرها هياكله دون ما حاجة للدخول في صراعات مع هذه الأسرة أو تلك. يشكل الصراع الذي احتدم بين أقوى أسرتين مخزنيتين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نموذجا معبرا في هذا الشأن، هما أسرتا آل الجامعي وآل أحمد.
يقول الباحث مصطفى الشابي “ومن العوامل المدمرة للعائلات المخزنية كذلك المنافسات بين الأطراف التي تتقاسم النفوذ في صفوف المخزن. ولطالما ناصب بعضهم بعضا العداء الشديد، وإذا تمكن شخص في منصبه وأحس من نفسه القدرة على البطش في وقت من الأوقات لم يتردد في تنحية من يعتبرهم من أعدائه من السلطة، ولم يتوان في الإجهاز على مقدراتهم المادية والمعنوية. ومن الأمثلة على ذلك تلك النهاية المفجعة التي عرفتها أسرة الجامعي بالأعمال الانتقامية للوزير أبا حماد على إثر وفاة السلطان مولاي الحسن وتولية ابنه مولاي عبد العزيز”. نحن إذن أمام صراع نفوذ بين عائلتين من أصول مختلفة، عائلة آل أحمد، التي تمثل فئة الخدام المنحدرين من عبيد البخاري والتي توارثت منصب الحجابة، وعائلة آل الجامعي، التي تمثل نموذج الأسرة المخزنية “الأرستقراطية”، علاوة على انتسابها لفرقة جيش شراكة والتي هيمنت على منصب الصدارة العظمى.
آل الجامعي أو “برامكة” مغرب القرن الـ19
آل الجامعي أسرة فاسية عريقة تنتسب إلى قبيلة أولاد جامع. أصبحت تحمل اسم “الجامعي” بدل “ابن جامع” منذ أن استوطنت الجهة الشمالية الشرقية لمدينة فاس، ويرجح الباحث بوشتى بوعسرية أن يكون ذلك في عهد الدولة السعدية. تتألف قبيلة أولاد جامع من عشائر حمود الحجر الشريفة والويدان وسوق الأربعاء وسوق السبت، كما ذكر عبد الرحمان بن زيدان في كتابه العز والصولة. انضمت هذه القبيلة سنة 1849 إلى الجيش المخزني الذي نظمه السلطان عبد الرحمان بن هشام (1822-1859) بعد هزيمة المغرب في معركة إيسلي سنة 1844.ارتقى أفراد أسرة الجامعي إلى منصب الوزارة خلال فترة حكم هذا السلطان في شخص المختار بن عبد المالك الجامعي الذي عين صدرا أعظما سنة 1831، ثم من بعده ابنه العربي بن المختار الذي عين وزيرا صدرا سنة 1847، لكن تجربة هذا الأخير في الحكم انتهت بالإقالة، إذ عزل من الصدارة العظمى سنة 1853. غير أن نفوذ الجامعيين تقوى وتعزز بالقرابة التي حظيت بها أسرتهم، حين صارت بنتان من بنات المختار الجامعي، إحداهما فاطمة الجامعية زوجا لولي العهد آنذاك السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان، والأخرى خيرة الجامعية زوجا للأمير مولاي عبد السلام بن عبد الرحمان. فكانت الأولى أما للسلطان مولاي الحسن، فاجتمعت أسباب الحظوة لهذه الأسرة بتولي هذا السلطان الحكم سنة 1873. فكان طبيعيا أن تكون هذه المكانة على حساب أسر أخرى جرت إزاحتها أو على الأقل تهميشها والحد من طموحاتها، وكان أول المتضررين من هذا “النجم الجامعي الصاعد” آل أحمد، الأسرة المخزنية التي درجت على توارث المناصب المخزنية مدة قرن من الزمن، ولم تكن لتسمح بمزاحمة أو تهميش أو إزاحة.
الطيب بياض
تتمة المقال تجدونها في العدد 3 من مجلتكم «زمان»