كيف يمكننا أن نفهم هذا العنوان؟ التقدم لغة هو الذهاب نحو القادم، وهو عكس العودة أو أن ننكفئ راجعين من حيث أتينا، يقودنا في ذلك الحنين أو الخوف من الآتي الجديد. من هذا المنطلق، لا يمكن لشخص يتبنى السلفية، أي العودة إلى فعل السلف الصالح، أن يدعي انخراطه في بناء المستقبل أو العمل على التقدم. من الممكن أن يقول قائل إن فكرة التقدم فكرة إيديولوجيا تأسست بداية من النهضة الأوربية، وهي الآن في إطار المراجعة وإعادة النظر. كل هذا الكلام صحيح، لكن دعونا نلقي نظرة عن الموضوع من خلال الوقائع التاريخية، ونبتعد قليلا عن التحليل النظري .ولنأخذ كمثال المغرب كشعب وكدولة وكمجتمع.
نطلق على الذين يعتبرون أن التاريخ يتقدم وأن له قانونه الخاص وربما حتميته، نطلق عليهم لقب تقدميين. أي بمعنى من المعاني نعتبر أنهم يتخذون من إيمانهم بالتقدم عقيدة يؤسسون من خلالها فكرا أو أنساقا فكرية وسياسية وجمالية. كما أنهم، من خلال هذه العقيدة، يؤسسون لمشاريع مجتمعية يتوخون من خلالها تطوير المجتمع حتى يتقدم تاركا وراءه الماضي وأفكاره المنتهية الصلاحية.
من جهة أخرى، نطلق على الذين لا يؤمنون بالتقدم لقب رجعيين أي أنهم يريدون الرجوع إلى الوراء. وغالبا ما يدعو من نسميهم بالرجعيين إلى استرداد الماضي والوقوف ضد كل محاولة للتقدم. وقد سموا، حسب الثقافات والعقائد والتيارات السياسة، بالمحافظين أو السلفيين. لكن وجب التفريق بين المحافظين الذين يتبنون الثبات وعدم السماح في الوضعية التي يوجدون عليها ويستفيدون منها، وأولئك الذين يتبنون المحافظة من وجهة نظر عقدية أو إيديولوجيا. فالمحافظون على المستوى السياسي، يدافعون في الغالب عن مصالح يعتقدون أنها مهددة من طرف التيارات أو التنظيمات التي تدعو إلى التقدم، فهم يعرفون أن التغيير كيفما كانت طبيعته سوف يعصف بمصالحهم الاقتصادية وبوضعهم الاعتباري داخل مجتمعاتهم. بينما يدافع المحافظ، الذي يتبنى المحافظة كإيديولوجية فقط، عن الثبات وعدم التغيير وربما العودة إلى الماضي السحيق، حتى وإن كانت هذه الأمور مجتمعة ضد مصلحته وضد مصلحة طبقته الاجتماعية.
لكن المحافظين في بلداننا عندما وعوا تخلفهم، طرحوا هذا السؤال الجوهري: «لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟». هذا السؤال يعترف في ظاهره بالتقدم، إذ يقول صراحة إن المسلمين تأخروا وأن غيرهم تقدم. هذا السؤال لصاحبه شكيب أرسلان، الذي كان مهموما بالانتقال من الحالة التي وَجَدَ عليها العرب والمسلمين إلى الحالة التي كان يرى فيها غيرهم. لكن السؤال يحمل في طياته مشكلة فشل المشروع. فهو يتحدث عن المسلمين في مقابل الأوربيين والأمريكيين واليابانيين. أي من جهة يتحدث عن عقيدة، ومن جهة أخرى يرغب فيما وصلت إليه شعوب انتهت من التعويل على بناء مستقبلها بالعقائد السماوية. وربما نجحت في ذلك بتقييد فضاء التداول العقدي الديني وقَصْرِه على ميدان العبادة الخصوصي. والدليل أنه يتحدث فيما يخص غير المسلمين عن فضاءات جغرافية ودول قومية، بينما يتحدث في حالة المسلمين عن فضاء عقدي نظري لا نعرف له عنوانا.
لو اقترحنا عليه سؤالا في شكل آخر بما معناه: لماذا تأخرنا؟ ولماذا تقدم غيرنا؟ لو كان قَبلَ السؤالَ في صيغته هاته لكان تساءل، وأعتقد ذلك، من نحن؟ من أنا؟ هل أنا عربي، مسلم؟ لبناني، كردي، أمازيغي… من أكون؟ سؤاله بالصيغة الأولى (عن المسلمين) يلغي تعدد الهويات داخل مجتمعه؛ في لبنان أولا، وفي العالم العربي ثانيا، ثم عند من يسميهم بالمسلمين أخيرا. كانت أوروبا تتحدث لغة الحدود بشكل مادي، بينما كان الأمير شكيب أرسلان يحاول إحياء وحدة وهمية انتهى أمرها. وهذا يعني أنه لم يقرأ أصل وتطور فكرة التقدم في حد ذاتها والتي يبدو أنه كان جادا في البحث عنها بغية تطبيقها في الفضاء الذي تسكنه شعوب سماها بالمسلمين.
تبلورت فكرة التقدم بالشكل الذي نعرفه اليوم انطلاقا من عصر النهضة وذلك عندما غير الإنسان في فلورنسا بإيطاليا ثم بعدها في كامل تراب أوربا، زاوية النظر. عندما خرج الإنسان بممارساته وليس بخطاباته من الزمن الثيولوجي (اللاهوتي) الدائري، ونظر إلى الأفق. والنظر إلى الأفق لم يكن فقط لتأمل الطبيعة واخضرارها أو السحب وهي تسابق الرياح، ولكنه كان أفقا فيزيقيا على الأرض. الزمن (التاريخ) الذي كان يعيش فيه الأمير زمن دائري يحمل مستقبله في ماضيه وفق الآية: ﴿منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم مرة أخرى﴾. أي أن حياة الإنسان ومصيره محكومان بقانون دائري ليس فيه أية مفاجأة. بينما زمن النهضة الذي تبلور أولا في الرسم والمعمار ثم في الفيزياء وتطور في رسم الخرائط واكتشاف دائرية الأرض وإمكانية غزو الآفاق فيما وراء البحار، هو الذي جعل الإنسان يفكر في الأرض التي يعيش فوقها قبل الاهتمام بالسماء لاستدرار عطفها وهديها.
من هنا نفهم كيف أن سؤال الأمير لم يكن بإمكانه أن يفضي إلى جواب عملي ذلك، لأنه بقي رهينَ الزمن الدائري.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير
مقالة أنيقة.