يصرح نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل: «ليست هناك نقطة في الشرق الأوسط لا يمكننا الوصول إليها»، «سوف نرسم خريطة جديدة للشرق الأوسط»… وغيرها من التصريحات العنيفة التي تصب كلها في تصور واحد، وهو إظهار القوة أو إرادة القوة. صحيح أنه لا يمكنه التفوه بهذا الكلام لو لم يكن مدعومًا براعيه الرسمي، الولايات المتحدة الأمريكية، لكنني أعتبر أن جنون العظمة الذي أصابه أصبح يوسوس له بأنه يمكنه السيطرة حتى على الولايات المتحدة وجيشها العرمرم.
من الغريب أن نتنياهو يستعير المفاهيم نفسها التي بنى عليها النازيون بألمانيا عقيدتهم التفوقية. فقد استعاروا من الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه هذا المفهوم وحوروه على هواهم. فإرادة القوة عند هذا الفيلسوف لا تتعلق بممارسة السلطة على الآخرين، بل هي ديناميكية أساسية للحياة والوجود .إرادة القوة هي القوة الخلاقة التي تحرك جميع الكائنات، وهي طاقة داخلية تدفع نحو النمو والإبداع وتأكيد الذات. إرادة القوة بالنسبة له هي مبدأ كوني وبيولوجي يدعم جميع جوانب الوجود، والحياة نفسها تعبير عن هذه الإرادة. إنها جهد مستمر لتجاوز العقبات، والنمو، والتفوق. ليست إرادة للسيطرة على الآخرين، بل إرادة للتطور، للتقوية، ولتأكيد الذات .إرادة القوة عند فريدريك نيتشه تتجاوز الثنائية بين السيطرة والخضوع. إنها ليست مجرد صراع من أجل السيطرة أو إلغائها، بل هي إرادة للتحول والتجاوز، حيث يسعى الفرد، والثقافة، وحتى الطبيعة إلى أشكال أرقى من الوجود. وهي ترتبط من جهة أخرى بخلق قيم جديدة وتجاوز القيم الأخلاقية، وخصوصًا المسيحية (بالنسبة له)، التي تربي على الدروشة والخضوع والتسليم بالقدر. ولذا، فإرادة القوة ليست هدفًا بحد ذاتها، بل هي عملية مستمرة من التغير، حيث تتغير الأشياء باستمرار وتبحث عن تأكيد ذاتها بطرق مختلفة؛ إنها ديناميكية للإبداع والتجاوز.
قام النازيون بتحريف وسوء تفسير العديد من جوانب فكر فريدريك نيتشه، بما في ذلك مفهومه إرادة القوة (Wille zur Macht)، لتبرير إيديولوجيتهم العنصرية والوطنية والسلطوية .ومع ذلك، من المهم ملاحظة أن نيتشه نفسه لم يكن ليوافق على هذا الاستخدام، حيث عبر عن آراء مناقضة لأفكار النازية الأساسية، بما في ذلك القومية، والعنصرية، والتصور القائم على القوة البحتة. فسر النازيون إرادة القوة كتبرير للقوة الظالمة، والسيطرة العسكرية، والتوسع الإقليمي. كما اعتبروا في أيديولوجيتهم أن الشعوب العليا، وخاصة الآريين، لهم الحق في السيطرة على الأعراق الدنيا. ربطوا هذه الفكرة بصراع دائم من أجل البقاء والسلطة، حيث كانت القوة والغزو موضع تقدير .ومع ذلك، ورغم أن نيتشه يدعو إلى تأكيد الحياة والقوة الفردية، إلا أنه ينتقد أشكال القوة أو السيطرة الوحشية التي تمارسها الدولة. على الرغم من أن نيتشه لم يدعم معاداة الثقافات والشعوب أبدًا، فإن النازيين أخذوا بعضًا من انتقاداته للقيم الأخلاقية التقليدية لدعم مشروعهم للتطهير العرقي. فقد تم تحويل فكرة إرادة القوة إلى أيديولوجية التفوق البيولوجي، حيث يجب أن يسيطر الأقوياء (الآريون) بشكل طبيعي على الضعفاء (الأعراق الأخرى)، وهو ما يتعارض مع فكر نيتشه الأصلي. وعلى الرغم من أن نيتشه كان ناقدًا شديدًا للقومية، خاصة القومية الألمانية، إلا أن النازيين استغلوا بعض أفكاره لتبرير أيديولوجيتهم التوسعية. وهكذا ربطوا فكرة السياسة العظيمة بإرادة القوة في الدعاية النازية، مما أضفى الشرعية على طموحاتهم الإمبريالية وحروبهم العدوانية. والسياسة العظيمة (die große Politik) هي فكرة أطلقها نيتشه، وتهدف إلى التفكير في السياسة على مستوى شامل وعميق يتجاوز الحدود القومية والإجراءات السياسية اليومية. استخدم نيتشه هذا المصطلح للإشارة إلى الطموحات الكبيرة التي تسعى لتغيير النظام العالمي بأكمله، والتركيز على إعادة تشكيل القيم الإنسانية والمجتمعات بطريقة جديدة وقوية. غير أن النازيين قاموا بتحريف هذا المفهوم واستخدموه ذريعة لتبرير عملياتهم العسكرية والهيمنة على الشعوب الأخرى.
ولقد علمنا التاريخ من خلال أمثلة عديدة، ومنها النازية، أن إرادة القوة كما تفهمها الدول العسكرية تؤدي حتمًا إلى خراب هذه الدول. تاريخيًا، انتهت العديد من الإمبراطوريات التي انخرطت في السعي إلى التوسع وإرادة القوة بالسقوط تحت ثقلها الخاص؛ إمبراطوريات مثل روما ونابليون وغيرها.
وهنا نجد أن نتنياهو يطبق على الفلسطينيين واللبنانيين ما كان يطبقه هتلر على اليهود. التحريض على القتل والتطهير العرقي، وهو في ذلك يعطي أمثلة ملموسة إلى كل جيرانه الذين يُدْخِلُهُمْ ضمن ما يسميه بمشروعه عن الشرق الأوسط. هذا المشروع الذي يسكن رأسه وحده ولا يقتسم تفاصيله مع أحد. إنه مهووس به ولا يعتبر أن هناك من يستحق أن يكون صديقًا أو شريكًا في هذا المشروع. أليس غريبًا أن يقوم بزرع جهاز تجسس داخل غرفة حمام أحد أبرز المدافعين عنه وهو بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، الذي يشبهه حتى أصبح لكأنه هو؟
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير