في يوم الجمعة، الثامن من نوفمبر، عجّت صفحات المواقع الإخبارية وشاشات التلفزة الأوروبية بصور قصيرة جدًا تُروِّج لما أسمته بعض التقارير بالمذبحة (Pogrom)، بينما وصفتها أخرى بأنها مجزرة، في حين أكدت مصادر أخرى أنها انفجار لمعاداة السامية في قلب أمستردام، المدينة الواقعة في صميم أوروبا الديمقراطية، التي تُعرف بحماية حرية الأشخاص وعقائدهم وتنقلاتهم.
انتفض العالم الأوروبي وأرغى وأزبد رئيس وزراء هولندا، الذي يترأس حكومة يمينية متطرفة. وصعد إيمانويل ماكرون إلى منابر الخطابة وأسال لعابًا كثيرًا وهو يتوعد المجرمين بالملاحقة، ويحث زميله الهولندي على فعل الأمر نفسه. ولم يدخر الألمان جهدًا، بل ذهب بعضهم إلى القول إن ما حدث أفظع مما وقع خلال العهد النازي. كذلك فعلت بريطانيا وسائر الدول التي تدور في فلك الهيمنة الأمريكية.
ما الذي حدث بالضبط؟
لم تستطع صحافة الدول الأوروبية، التي تدّعي الدفاع عن الحرية والحق، ومنها حرية الرأي والحق في المعلومة، أن تخبرنا بما حدث سوى تقديم رواية مقتضبة وموجهة. تحدثوا عن جريمة ارتكبها أشخاص مجهولون ضد اليهود المساكين الذين قَدِموا مسالمين لمشاهدة مباراة فريقهم أمام فريق أياكس أمستردام الهولندي. لماذا هاجمهم هؤلاء الأشرار المزعومون؟ وسائل الإعلام الغربية أجابت بصوت واحد: “ببساطة لأنهم يهود“.
غير أن هذه الرواية تجاهلت أن العالم اليوم أصبح مفتوحًا، وأن الإعلام الرسمي بات يتحدث فقط إلى نفسه أو، في أفضل الأحوال، إلى جمهور من المسنينّ الذين لا يستطيعون البحث عن المعلومة بأنفسهم. أما الإعلام غير الرسمي، وشهود العيان الذين تابعوا الأحداث عن قرب، بعيدًا عن كاميرات التركيب والتوضيب الموجه، فقد بدأوا في كشف الحقائق. أخبار بدون رتوش، أفادت بأن جمهور الفريق الإسرائيلي وصل إلى أمستردام يوم الأربعاء وبدأ يزرع الرعب ويعيث فسادًا في الأزقة، مستهدفًا العرب والمسلمين على وجه الخصوص. ولم يكتفِ بالاعتداء على الممتلكات والأشخاص، بل سار في مسيرات منظمة تُمجِّد العنصرية والفاشية في شوارع أوروبا الديمقراطية المعادية للسامية. بل وصل به الأمر إلى حد تمجيد قتل الأطفال في غزة والصعود إلى بيوت الناس ومحاولة إنزال أعلام فلسطين المثبتة على شرفاتها.
هبة الزعماء الأوروبيين لم تكن جديدة. سبق ذلك مواقف مثيرة للجدل لوزير الداخلية الفرنسي الذي استشاط غضبًا بعدما رفع جمهور نادي باريس سان جيرمان لكرة القدم “تيفو” ضخمًا مساندًا لفلسطين خلال مباراة الفريق مع أتلتيكو مدريد الإسباني. زرع الوزير الفرنسي التهديد والوعيد في جميع القنوات الفرنسية والأجنبية.
في سياق متصل، كانت بلجيكا قد ارتأت أنه من الحكمة نقل مباراة فريقها الوطني ضد إسرائيل إلى المجر لتجنب أحداث لا ترغب في التعامل مع تداعياتها. بهذا، تفادت ما حدث في باريس، وخصوصًا ما جرى في أمستردام.
أما في فرنسا، فقد بدا الرئيس إيمانويل ماكرون وكأنه يحاول إظهار نفسه بمظهر المدافع الشجاع عن السامية، لا سيما بعد الإهانة التي تعرض لها إثر هجوم إسرائيل على كنيسة الأليونة بجبل الزيتون شرق القدس واعتقال دركيين فرنسيين. حضر ماكرون مباراة الفريق الفرنسي ضد إسرائيل في الملعب الذي شهد رُفِعَ فيه “التيفو” المساند لفلسطين. لكن مساندي الفريق الفرنسي قرروا الامتناع عن الحضور، تاركين الرئيس وحيدًا مع ضيوفه في ليلة باريسية باردة.
ما الذي حدث حقًا؟
بالنظر إلى نوع الجمهور المرافق للفريق الإسرائيلي، تبيَّن أن الأمر يتعلق بجنود من الجيش الإسرائيلي، ينتمون في غالبيتهم إلى منظمات نازية تدعو إلى إبادة الفلسطينيين والعرب. فما الذي كانت تسعى إليه إسرائيل في هولندا وأوروبا؟ ألم تكن الاستخبارات الإسرائيلية ذات السمعة الخارقة المزعومة على علم بأن العرب والمسلمين متجذرون في تلك الديار، وأنهم مواطنون يساهمون في الاقتصاد ويشاركون في تسيير شؤون البلاد السياسة؟
في اليوم التالي للأحداث، وجّهت الصحافة الهولندية والأوروبية أصابع الاتهام للهولنديين من أصل مغربي، مما وضع حكومة رئيس الوزراء اليمينية المتطرفة، ديك شوف، في أزمة غير مسبوقة تهدد بسقوطها. وزيرة الدولة للإعانات الاجتماعية والجمارك، نورا أشهبار، وهي من أصل مغربي، قدمت استقالتها بسبب تصريحات عنصرية أدلى بها بعض زملائها الوزراء بعد الأحداث. كما تراجعت عمدة أمستردام، فاكما هالمسا، عن وصف الأحداث بـالمذبح (Pogrom)، مؤكدة أنها لم تكن سوى دعاية من طرف حكومة تل أبيب وسياسيين هولنديين للتمييز ضد المسلمين المغاربة في هذا البلد. هل تقصد العمدة أن ردة فعل الشارع الهولندي لم تكن من طرف المسلمين وحدهم؟
أين سيذهب الإسرائيليون بعد اليوم؟ هل كلما حل نفر منهم ببلد أوروبي سوف يتوجب على سلطاته أن تستنفر الجيش والشرطة لحمايتهم؟ إلى متى سيظل حكام أوروبا يدافعون عن الكيان الصهيوني ضدا على إرادة شعوبهم؟ هل بدأ أفول نجم إسرائيل في الغرب؟
هو ربما الدرس الذي تعلمناه من أحداث أمستردام.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير