تفيدنا أبحاث علماء التربية أن الإنسان لا يستوعب مما يسمعه إلا نسبة ضئيلة، بينما يستوعب أكثر من ذلك بكثير عبر القراءة. أما إذا كتب بأسلوبه وكلماته ما استوعبه، فإن الأمر يتعدى الإدراك الأولي إلى تملك واستبطان للمفاهيم والأفكار، ويتحول ذلك إلى خبرة ودراية عملية.
نستحضر هذه الخلاصات لنلفت النظر إلى أن جدل المنطوق والمكتوب يفقد كل أهميته المعرفية عندما يتحول إلى المقابلة الفقيرة بين المنطوق والمنطوق، أي الشفوي المبلغ عبر الصوت المباشر، والشفوي المسطر بالحروف. فبنيتهما واحدة، ومنطقهما التواصلي المؤسس على التأثير المباشر في العواطف وفي الوجدان منطق واحد.
أما المكتوب فبنيته مخالفة، تتوخى التركيب والتأسيس المتبصر والعميق للخلاصات، وتخاطب الوجدان والعقل في نفس الآن، لذلك أعتبر اختراع الكتابة ثورة أساسية في تاريخ البشرية. ستلي هذه المحطة المهمة ثورة ثانية، هي اختراع الطباعة أواسط القرن الخامس عشر في أوربا، وستساهم الطباعة في النهضة الثقافية الأوربية. لقد كانت أول المطبوعات «الكتاب المقدس» الجامع للتوراة والأناجيل الأربعة، ثم المجلدات الإثني والعشرين للقديس أوغسطين تحت عنوان «مدينة لله». ساهمت هذه الكتب في التخفيف من هيمنة الكنيسة المسيحية على تأويل «المنطوق الديني»، ومكنت كل مؤمن من التواصل مباشرة مع خالقه، فأضعف ذلك سلطة الوساطة بين الإنسان ولله، التي كانت البابوية تستحوذ عليها. ونعرف جميعا الصراع بين مارتن لوثر والبابوية، وما أسفر عنه خلال القرن السادس عشر من إصلاح ديني ومن اتساع وقع التوجه الفلسفي الذي بلور الأنسنة الغربية.
صادف دخول المطبعة الحجرية المغرب التفكير في إصلاح منظومة التكوين بجامعة القرويين. الغريب في الأمر أن هذه المطبعة لم تطبع القرآن الكريم، ولا كتاب الموطأ للإمام مالك، والمغرب بلاد المالكية بامتياز، ولا حتى «كتاب النحو» لسيبويه، والعربية هي اللغة الرسمية ولغة التلقين. لقد ركز المسؤولون جهودهم في إصدار مختصرات كأدوات تربوية للتكوين بجامعة القرويين. فأصدروا وعمموا «ألفية ابن مالك» و«ابن عاشر» و«الأجرومية» وغيرها من أدبيات الفروع عوض الأصول. تخرج من القرويين متضلعون في الفقه، أما الفكر الإسلامي، فلسفة أو لاهوتا، فلم يهتم به إلا قلة من العلماء، ليطبع ذلك التدين المغربي، وأساليب التلقين والتكوين والتربية. حُصِرت التنشئة الاجتماعية، تبعا لذلك، داخل إطار يحكمه المنطق الثنائي، منطق الحلال والحرام، ولا شيء بينهما، بينما الواقع المعاش يزخر بتعقيدات، لا يمكن لأية قراءة مانوية استيعابها. تشكلت، على امتداد قرون من التنشئة، عقلية مغربية مؤسسة على تناقض صارخ بين التعاملات المرنة مع الواقع وتعقيداته، والتمثل الذهني لهذا الواقع، وفق منطق الحلال والحرام. فاتسعت الهوة بين المعاش اليومي والمنطوق المتبادل اجتماعيا. واتجه المناخ العام نحو انفصام جماعي للشخصية، يظهر بشكل جلي خلال ظرفيات الأزمة، عندما يصطدم الواقع بتعقيداته مع الخطاب السائد المؤسس على المنطق الثاني للاختلاف والمقلص لمساحات الحوار والاجتهاد. تغير العالم ولم نستوعب مستجداته، فاقتحمنا الاستعمار، ولم ندرك مبكرا لماذا وكيف هزمنا واسْتُعبدنا، وظل الكثير منا يعتقد أن الخلاص لم يأت إلا بالتشبث بهويتنا وقيمنا كما صاغها الأسلاف. قليلون هم الذين وعوا أن الهوية ليست معطى جامدا، بل منتوج سيرورة تاريخية، خاضعة هي الأخرى للتغيير وإعادة الإنتاج.
كانت السلفية المغربية أحد الردود الفكرية المهمة على صدمة الحداثة الغربية، اتجهت في بداية تبلورها نحو التنوير، فقاومت وسط المجتمع «التقليد بالتجديد»، فأسست المدارس العربية الحرة، وشجعت المسرح والصحافة واكتساب العلم والمعرفة، ولو ببلاد «المحتل الكافر». إلا أن العمق المحافظ للمجتمع سهل عودة التقليد وتمثلاته، هكذا أُجهضت بوادر «الثورة الثقافية» التي صاحبت نضال المغاربة من أجل الاستقلال والحرية، فبنيت الدولة الوطنية على مركزية التقليد، وتمت مقاومة النزعات الفكرية الحداثية، فأبعد الفكر النقدي من برامج التعليم، لتكون النتيجة تكوين أجيال كثيرة لا تعرف شيئا عن الفكر الإنساني وإبداعات البشرية. صحيح أن المدرسة المغربية كانت مهدا لمتضلعين في الرياضيات والفيزياء والطب وغيرها، إلا أن حاملي ومنتجي الفكر قلة تعيش الغربة داخل وطنها. هكذا تحولت «السلفية التنويرية» إلى «سلفية جهادية»، وتحول حب الوطن إلى حب الذات، واتسعت فضاءات النزاع، وحل الإقصاء مكان الحوار، وساد العنف اللفظي وانزلق البعض إلى التطرف والإرهاب.
نعيش، اليوم، في رحاب ثورة إنسانية ثالثة، هي الثورة المعلوماتية والتواصلية، وكالسالف ما زلنا فضاء للاقتحام، نتأثر أكثر مما نؤثر. منطوق خطابنا الرسمي يقول بحقوق الإنسان، بمركزية العلم، بالرغبة في التحديث، بالإسلام الوسطي، بالسعي للاندراج في العصر وبالتعامل مع الآخرين من موقع الشريك. إلا أن منظومة القيم السائدة في الواقع، ما زالت مانوية تغذي الإقصاء والعنف، وتتوجس من القيم الكونية للبشرية.
تحت وقع التناقض العميق، الذي ترعاه العقلية المغربية، فشلت منظومة التربية والتكوين في تأهيل المغاربة للاندراج إيجابيا في عصرهم، كما فشلت كل محاولات الإصلاح لأنها فضلت «مركزية الهوية» على «مركزية المعرفة»، وفضلت إنتاج تقنيين ومتضلعين عوض علماء ومفكرين.نتمنى أن يكون أعضاء «المجلس الأعلى لإصلاح التعليم» قد أدركوا هذا العطب الاستراتيجي…
أما نحن، في مجلة «زمان»، فليس في وسعنا إلا أن ندعو المغاربة للقراءة والتفكير. اقرؤوا وفكروا ودبروا وعالجوا بالتي هي أحسن… الواقع لا يختزل في الأبيض والأسود، بل تعدد تجلياته لا تستوعبه حتى مختلف ألوان الطيف.
أي نتيجة
View All Result