يمكن أن نعرف التخلف بوضعية خاصة يحس فيها الإنسان، الذي يعيش تحت الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والثقافية، أن المُهَيْمِنَ هو مصدر المعرفة وفن العيش، بل هو مصدر الحقيقة على الإطلاق. الذي يعيش هذه الوضعية لا يصرح بها ولا يعترف بها، بل قد يدافع عن عكسها .قد يكون من المطالبين بالانعتاق من التبعية واتِّبَاعِ أسلوب خاص والتَمَتُّع بشخصية مستقلة.
ولكن الأمر لا يتعلق بما يصرح به المتحدث عن نفسه، إذ من يقول “أنا“ لا يُصَرِّفُ في الغالب إلا الاستيهامات التي يبنيها انطلاقا من وضعيات لاشعورية وقد تكون حقيقته في مكان آخر.
عندما تسأل القراء عن الإنتاجات التي يقرأون، فسوف تأتيك جُلُّ الأجوبة إن لم تكن كلها تحيل على مؤلفات شرقية، وإذا حدث أن أحال قارئ مغربي على مؤلفات مغربية، فسوف تكون تلك التي اعترف بها المشارقة. كذلك، عندما يتعلق الأمر بالفرنسية، فإن الإحالات تكون على الثقافة الفرنكوفونية، ومهما علا شأن الكاتب المغربي، فإن القراء ينتظرون في الغالب رأي الآخر فيه.
توصلت برسالة من منبر ثقافي يساري يقول إنه يحارب التبعية والإمبريالية وغيرها من النظريات المعروفة، يطلب مني المساهمة في ملف عن الثقافة. واجتهد المنبر في تحرير ديباجة أو ورقة لتوضيح موقفه من الثقافة، ووضع الخطوط العريضة للملف المراد إنجازه. وسبق إرسال الورقة اتصال شخصي طلب مني بواسطته المكلف بالملف، إن كنت مستعدا للمشاركة. فأخبرته بموافقتي المبدئية شريطة أن أطلع على الورقة. عند قراءتي لنص التقديم، أصبت بما يشبه الإحباط. فلقد حاول الكاتب الاستعانة بمفكريْن يَعْتَبِرُ أنهما يستحقان تصدر هذا الملف .ومن غريب الصدف أن الكاتبين شرقيان يعيشان خارج البلاد العربية، ويكتبان في الغالب بلغات أجنبية. استقر رأي الكاتب على الاستشهاد مطولا والاستناد نظريا على ما قاله إدوار سعيد وأمين معلوف.
تعجبت كيف يمكن لمناضل يساري يدافع عن الاستقلالية أو عدم التبعية، بل وقد يدافع عن نموذج مغربي، أن ينسى أن المغاربة تطارحوا هذا الأمر ربما أكثر من غيرهم من الشعوب العربية. هل نسي أو لم يطلع على الندوة المهمة التي عقدها اتحاد كتاب المغرب سنة 1981 بقاعة أبا حنيني بالرباط؟ هل نسي النقاش، بل السجال الذي دار وما زال بين مفكرين يسائلون الحداثة ومفكرين يدورون في فلك فكر عبد لله العروي حول الثقافة ومفهومها في مغرب ما بعد الاستقلال وبعده؟ اقتنعت أنه من الصعب التخلص من فكر المُهَيْمِنِ.
ثم تذكرت القراء الذين يحاكمون الأدب المغربي المكتوب بالعربية انطلاقا من قربه أو بعده عن كتابات نجيب محفوظ وجبرا ابراهيم جبرا وعبد الرحمان منيف والماغوط… وغيرهم. تذكرت أيضا مرة دعاني أحد الطلبة لحضور مناقشة رسالته في الدكتوراه في الأدب العربي .دعاني لأنه كان قد تناول في بحثه الكتابة والصوفية، واعتمد نموذجين هما بعض روايات جمال الغيطاني وروايتي مدارج الليلة الموعود ومدارج الليلة البيضاء. وخلال بحثه، أحس أنه من المفروض عليه أن يفاضل في لحظة ما بين العملين فاختار أن ينحاز، ولو أن عملية مثل هاته لا تقبل في البحث العلمي، إلى جمال الغيطاني. لكن اللجنة كانت تضم من بين أعضائها الكاتب أحمد بوزفور الذي أبان من خلال كلمته عدم صواب هذا الطرح الذي كان في الحقيقة صادرا عن قناعة دينية. ذلك أن الباحث كان يعتقد، وربما ما زال، أن التصوف مقصور على الدين، وأن كل من التزم بالتصوف الديني، كما فعل الغيطاني، فهو محق، وكل من حاول البحث عن الروحي حتى في حالات خليعة فهو مخطئٌ ضالٌّ.
ولكن المسألة تتجاوز المثقفين لتستقر في أذهان الناس. فكلما تصفحت الفايسبوك إلا واكتشفت أن الثقافة المشرقية تسكن الوجدان. فالاستشهاد بالكتاب والمفكرين المشارقة حتى ولو كانوا من الدرجة الثانية أو الثالثة شيء عادي جدا ويتم كما لو كان طبيعيا، بل والتعبير عن حالات نفسية ووضعيات كوميدية باللجوء لممثلين وفكاهيين شرقيين .يحدث هذا، بل وبصفة أكثر عنفا على الذات من طرف الفرنكفونيين.
يستلذ المتخلف بإظهار تمكنه من الثقافة المهيمنة. تمر فترات يحدث فيها تهييج ضد ثقافة المهيمن، لكن ما تلبث أن تعود الأمور إلى أصلها، ويعود المتخلف إلى تقديم آيات الطاعة والولاء والندم على ما صدر منه ضد السلطة المهيمنة. لقد سمى كارل ماركس، فيما مضى، هذه الحالة بالاستلاب.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير