ما الذي يحدث داخل أروقة الإسلام المغربي؟ لا أقصد إسلام المغاربة الذين مارسوه منذ قرون وبكل هدوء، بل أقصد الإسلام السياسي وإسلام شيوخ الدعوة.
الهزة الأولى: لقد تحدث وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية عن تكوين الأئمة، وأشار إلى نقطة مهمة ألا وهي إدماج العلوم الإنسانية في التكوين وحتى علم الجنس السيكسولوجيا .(Sexologie) هكذا قرأت الخبر. وأصر السيد الوزير على التنصيص على أن هذا العلم يُدَرَّسُ من خلال كتاب أعدته طبيبة لهذا الغرض، وفق الخبر نفسه الوارد في موقع “زمان“ باللغة العربية. لا أدري هل في الأمر حكمة ما، كون الكتاب سهرت عليه امرأة، ولم يترك للمدرس المختص في السيكسولوجيا حرية اختيار الكتاب الذي يريد. ومهما يكن في الأمر، فإن الوزير لم يشر إلى إن كان الأمر يتعلق بتربية الأئمة أنفسهم على الجنس، أو تكوينهم حتى يصبحوا هم أنفسهم مربين. تحول جديد جدير بالانتباه حتى ولو كان الأمر يتعلق بكتاب أقرته الوزارة وأعد خصيصا لهذا الأمر، يعني أن الجنس ما يزال محاصرا وأن الائمة الفضلاء لن يطلعوا على شيء لا ترتضيه إدارتهم العليا.
الهزة الثانية في اتجاه التحول: حدث شرخ في الجبهة العُلَمائِيَّةِ (استعمل هذه الكلمة للإشارة إلى أشخاص دعاة يتعاملون مع المعرفة الفقهية المتراكمة عبر القرون على أنها علم) بالمغرب إثر تحول في خطاب أحدهم، واعتبار عدد كبير من هؤلاء الدعاة أن كلام صاحبهم يجانب الصواب. حدث إجماع دعوي جديد، لا أدري إن كان الرقاة سوف ينظمون إلى هذه الحركة، ولكن الإجماع مثير للاهتمام إن لم يكن مثيرا للشك .سبب تكتل الدعاة أن أحدهم، وكان يعتبر نفسه منهم لكنه يدعي في نفس الوقت أنه عالم مختبر، صرح أن الدعاة ليسوا علماء، وأن العالم هو الذي يبحث ويؤلف فيما سماه بالعلوم الكونية. بل ويبدو أنه سبق له وأن قال إن العالم الذي يخترع شيئا مفيدا للإنسانية داخل الجنة لا محالة، وأن لله لا يستطيع أن يظلمه ويدخله جهنم بالنظر إلى الخير الذي أسداه للإنسانية.
إلى هنا، يمكن أن نعتبر الأمر في خانة النزاعات العقدية والمذهبية التي تحدث بين الأشقاء الدعاة، ولكن التحول حدث عندما تدخلت جمعيات ورابطات ما يسمى العلماء (في نطاق الخطاب الديني) بل وأشخاص (علماء من الصنف نفسه) ليساندوا زملائهم ويدافعون عنهم. يبدو أن هناك متدخلون من المغرب الكبير، بل ومن بلدان خليجية إن لم يكن الأمر قد تعدى ذلك بكثير. لماذا هبوا فجأة يدافعون عن شيء لا يعلمه أحد غيرهم؟ لماذا أصابهم صاحبهم في مقتل عندما حدد معنى العالم الداعية؟ العالم بمعنى عَلِمَ يَعْلَمُ أي أنه كان على عِلْمٍ بما حدث. هل علماء الدين، كما يسمون أنفسهم، يعرفون شيئا غير ما سطر في الكتب؟ وهل يصعب على الناس الاطلاع على ذلك؟ لا قطعا. كل من توفرت لديه معرفة معتبرة باللغة يمكنه أن يلج كتب الفقه والتفسير وأن يعرف ما فيها. بل أن هناك ممن يسمون أنفسهم علماء الدين لا يستطيعون ولن يستطيعوا فك شفرات بعض النصوص القرآنية، بل والأحاديث أيضا. هناك لغويون علمانيون وملحدون وغير مسلمين حتى، لهم معرفة دقيقة باللغة العربية وبأسرارها وبإمكانهم أن يُعَلِّمُوا هؤلاء الدعاة كثيرا من معاني القرآن والحديث.
يجب أن نعرف أن ميدان الدعوة أصبح سوقا رابحة تدر دخلا مهما على أصحابها. فبغض النظر عما يجنيه هؤلاء من مداخيل “يوتوب“، هناك سوق أخرى بداخل المغرب كما بخارجه يتصرف فيها الدعاة كما يتصرف منظمو الحفلات في الأعراس والمناسبات. عندما نعرف أن خطبة الجمعة في مسجد بإسبانيا أو فرنسا أو إيطاليا تساوي أربعة آلاف يورو، فإننا نقدر أهمية السوق. فهذه السومة لا يتقاضاها حتى المختصون في الاستشارات المؤسساتية الذين يهيئون دراسات وملفات لشركات قد تربح الملايير بفضلها. هناك، إذن منافسة على أشدها بين الدعاة الذين يقدمون أنفسهم على أساس أنهم وحدهم الناطقون باسم الدين، وأنهم هم وحدهم العارفون بالدين الإسلامي. لذا تراهم يرددون دون توقف مسألة الاختصاص، وكأن في الأمر سر ما لا يصله إلا الذين انتخبوا لذلك.
لكن يبدو أن الساحة الدينية في المغرب تتحول باستمرار. وكنت قد أشرت في زاوية منشورة شهر مايو 2021 بعنوان “هل أصبح المغرب علمانيا؟” كيف أن فترة كورونا بينت للمغاربة قصور الدعاة وعدم جدواهم في مثل ظروف الجائحة، وكيف تحول النظر إلى الدين من مستوى فلكلوري خطابي دعوي إلى مستوى فردي تعبدي تأملي. والتحول السائر اليوم يبدو فيه أن الاستغناء عن الدعاة الخطباء آت لا ريب فيه. ويبدو أن صاحبهم صاحب المختبر فطن لهذا الأمر، وفطن كذلك إلى أن الدعوة الجديدة يجب أن تستند إلى خطاب جديد يوهم الناس على أنه علمي صرف، ويحاول ربطه بمعتقدهم.
وداخل هذا المخاض، بدا لصاحبهم أن الفرصة سانحة للإجهاز عليهم والاستبداد بسوق فيديوهات “يوتوب“ فاستل السيف القاتل، سيف المعرفة العلمية. لكنه لم يفطن لشيء آخر وهو أنه يدق مسمارا في نعش الإسلام السياسي والدعوي بمغرب أصبح أئمته يدرسون السيكسولوجيا.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير