جدل كبير وحملات فيسبوكية عرفها المغرب في الأسابيع الأخيرة، حول المطالبة باستبدال اللغة الفرنسية بالإنجليزية، بعيدا عن الشعبوية التي رافقت هذا الجدل، والحمولة التاريخية المشحونة بالعداء العقدي والسياسي .أقصد هنا الوضع الاستعماري السابق الذي فرض الثقافة الفرنسية على المغرب. أرى أن اللغة الفرنسية هي من أنتج أسس التفكير الإنساني المعاصر في العلوم السياسية والثقافة الحقوقية بشكل عام، ليس عبثا أن تسمى باريس عاصمة الأنوار، إذ منها انطلقت شرارة الثورة الثقافية والسياسية التي ستضيء العالم أجمع، وأهدت العالم إحدى أروع الكتابات الكلاسيكية التي تعد اليوم مصدرا أساسيا في التفكير السياسي والفلسفي والحقوقي. ليس هناك أسهل من الدعوات الشعبوية التي تستسهل رفع شعارات كبرى دون أدنى تفكير في ضرائبها وآليات تنفيذها، ينبغي النظر في المسألة الفرنكوفونية بعين فاحصة وهادئة للوصول إلى حلول مقبولة وتوصيفات منطقية غير مضخمة بروح العداء الحضاري.
ما من شك في أن الاستعمار حدث سيء في الذاكرة الوطنية، لا يماثله في السوء إلا التخلف الذي كان الوطن غارقا فيه قبل توقيع معاهدة الحماية، يستويان من ناحية النتيجة، تخلف وفقر وتفقير، لكن الحقيقة التي لا يمكن التغاضي عنها في هذا السياق، هو أن الفرنسية ساهمت بشكل أو بآخر في صنع المغرب الذي نعرفه اليوم .المغرب الذي شارف على الإقلاع الاقتصادي، وبدأ يحقق نقلات نوعية في المكانة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لم يكن ذلك ممكنا دون المئات من الكوادر المغربية التي درست في فرنسا، ونقلت تلك المعارف والخبرات إلى أرض الوطن للمساهمة في تحقيق تقدم نوعي، ولا يمكن إغفال دور الانفتاح اللغوي المغربي الكبير على اللغة الفرنسية في التفوق الفكري الذي عرفه مفكرو المغرب الكبار كعبد لله العروي ومحمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن وعبد الكبير الخطيبي والمهدي المنجرة وغيرهم من الأسماء اللامعة في سماء الفلسفة والفكر .لقد قاد المغاربة الفكر العربي لعقود طويلة، وتربعوا على عرش الإنتاج الفلسفي العربي، بسبب احتكاكهم المباشر مع الإنتاج الفلسفي الفرنسي الذي كان خصبا للغاية في حقبة السبعينات والثمانينيات، مع أسماء لامعة ما زالت تدين لها البشرية بالشيء الكثير، كالفيلسوف الوجودي جون بول سارتر، وجاك دريدا، وميشيل فوكو، وغاستون باشلار وغيرهم الكثير.
لا يختلف اثنان في التراجع الكبير الذي تعرفه الثقافة الفرنسية، الفرنسيون أنفسهم أصبحوا يستشعرون الخطر المحدق بثقافتهم، وهو الأمر الذي بدأ يأخذهم رويدا رويدا نحو الانغلاق القومي كأي أمة تبدأ في الشعور بالأخطار فتلجأ إلى الانكماش على نفسها، وفرض قوانين صارمة لإيقاف ما يمكن إيقافه من التدهور، للحد الذي جعل الدولة الفرنسية في عهد الرئيس السابق “فرنسوا ميتيران“ تمنع أي حديث بالإنجليزية في الإعلام الفرنسي.
لكن هل يكون من الحكمة قطع الصلة نهائيا مع فرنسا؟ حين نتحدث عن فرنسا فإننا نتحدث عن مئات الشركات الفرنسية العاملة بالمغرب، وعشرات الشركات المغربية العاملة بفرنسا، نتحدث عن اليد الاقتصادية المغربية التي استطاعت النفاذ إلى إفريقيا الغربية بواسطة اللغة الفرنسية –بعد العامل الروحي المتمثل في التصوف– وممارسة حضور اقتصادي قوي هناك.
لا أجهل ما تعانيه اللغة الفرنسية من مصاعب نتيجة تراجع حضورها العلمي والاقتصادي والسياسي، غير أن المغرب ما زال يستفيد من وضعه الفرنكوفوني اقتصاديا وسياسيا من خلال انفتاحه على عمقه الإفريقي، وكذا من علاقاته مع الاتحاد الأوربي خاصة بعد خروج المملكة المتحدة وعودة الفرنسية إلى الصدارة كلغة أساسية للتكتل الأوربي.
نتحدث هنا عن اللغة الثانية الأكثر انتشارا في أوربا، وعن تقاليد اقتصادية وسياسية راسخة بين البلدين. سهل للغاية أن يطالب ناشط حقوقي بقطع الصلة مع لغة أو بلد، كسهولة من يعتقد أن الحل يكمن في الإسلام، وآخر يراه في الشيوعية، حتى إذا جد الجد اكتشف الجميع أن الشعار وهم وسراب، يسيرٌ أن تحلم به صعب أن تترجمه برامج وأدوات وخطط قابلة للتطبيق.
ما هو مطلوب برأيي إذن هو عقد مصالحة ثقافية وهوياتية كبرى مع اللغة الفرنسية، مع الانفتاح على اللغات الأجنبية العالمية، خاصة الإنجليزية وتقوية حضورها في المشهد التعليمي المغربي، لكن مع الحفاظ على وضع الفرنسية كآلية مهمة في ضمان الحضور المغربي في إفريقيا، وآلية قوية أيضا في اجتذاب الاستثمار الأوربي القريب جغرافيا من الحدود المغربية، بذلك نحافظ على هويتنا الخاصة، ومصالحنا مع العالم الفرانكفوني، واستفادتنا من التفوق الأنجلو–ساكسوني.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي