يكثر الحديث عن الجسد في الكتابات كما في النقاشات الشفوية بالمغرب. وكلما كثر الحديث عن شيء إلا ويجب أن نعتبر أن الأمر يتعلق بنسيان الشيء نفسه. فكما في السياسة، كلما أرادت الإدارة تغييب موضوع ما وإبعاد الجمهور عن الاهتمام به، إلا وخلقت من أجله عدة لجان .بعد النقاشات الطويلة ينسى الناس لماذا خلقت اللجنة ومتى؟ ويذوب الموضوع في غياهب النسيان.
كذلك موضوع الجسد في المغرب .عندما يتم الحديث عنه، نجد أن أكثر الكلام إحالات على فلاسفة ومفكرين أجانب طرحوا إشكاليات نابعة من مجتمعاتهم، وحاولوا معالجتها انطلاقا من وضعيات معاصرة لهم. وهكذا، عندما طرح ميشال فوكو تاريخ الجنس في أوربا كان ذلك نابعا من نقاشات وجدالات ظهرت على الساحة بحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وبلغت ذروتها في نهاية الستينات وبداية السبعينات.
في هذه الفترة، كان هناك كتاب ومفكرون وفلاسفة يناضلون ضد تنميط المجتمع من خلال قيم الليبرالية ومجتمعات الاستهلاك ويدافعون عن حرية الفرد واستقلاله بجسده. نذكر منهم هنا: جان بول سارتر وصديقته/زوجته سيمون دو بوفوار، جان جوني، رولان بارت، ميشيل فوكو، جيل دولوز وصديقه أو خليله المفكر والمحلل النفسي فيليكس كواتاري (Félix Guatari) .وعلى ذكر هذا الزوج، فقد سبق أن أشرفا سنة 1973 على عدد خاص من المجلة العلمية الفرنسية أبحاث (Recherches) حول المثلية. صودر العدد من طرف السلطات الأمنية والقضائية الفرنسية، وصدر حكم بحرقه. لكن الكاتبين، ومعهما العديد من المثقفين اليساريين، استأنفوا الحكم وجاءت مرافعة فيليكس كواتاري الشهيرة أمام المحكمة لتدفع إلى التفكير في الموضوع بجدية، خصوصا وأنه ربطه بالحقوق السياسية وعلاقتها بتملك الإنسان لجسده. وسوف يتم إسقاط تجريم المثلية سنة 1982 بفرنسا، سنتان قبل صدور كتاب ميشال فوكو الشهير (L’usage des plaisirs, 1984)، والذي يمثل الجزء الثاني من سلسة تاريخ الجنس، حيث كان أصدر جزأه الأول سنة 1976، تحت عنوان (La volonté de savoir)”الرغبة في المعرفة“، لماذا نريد أن نعرف كل شيء عن الجنس؟
لم يكن الحديث عن الحرية الجسدية يتعلق بالمثليين، فقط، بل لقد ظهر انعتاق الجسد من السلطة الكنسية والأبوية خلال ثورة الشباب الفرنسي سنة 1968، والتي سبقتها ثورة الشباب الإيطالي ضد مؤسسة العائلة والمطالبة بحرية جنسية غير مؤطرة من طرف سلطة العائلة والمجتمع والكنيسة .فقد نشرت مجلة (Zanzara) ومعناها بالعربية الناموسة أو البعوضة (وهي مجلة كان يشرف على إصدارها تلاميذ ثانوية باريني Parini) بميلانو تحقيقا حول الشباب عَبَّرَ فيه غالبيتهم عن الحرية وتَمَلُّكِ الجسد. وكان السبب في اهتمام العالم الأوربي بهذه الثورة كونها خرجت من مؤسسة تعليمية لا يلجها إلا أبناء الميسورين المتحكمين في دواليب السلطة، والذين كانوا يعتبرون أن وجود أبنائهم بهذه المؤسسة سوف يقيهم شر الثورات. داخل هذا المناخ، تَمَلَّكَ الناس الخطاب عن الجسد وأصبح موضوعا سياسيا بامتياز. استعادت الجامعات الاهتمام بسيغموند فرويد وبالتحليل النفسي، وأصبح الأمر شأنا عاما. بل إن بعض الكتب، التي كان لها وقع النبوءة ككتاب “الثورة الجنسية“ لفيلهام رايش ،(1930) عادت بقوة. يبدو لي أننا نعيش اليوم في المغرب مخاضا من مثل ذلك الذي يسبق الانقلاب على الأطر المنتهية صلاحيتها، والتي لا زالت تمارس سلطتها فقط بقوة الرمز. لكن عوض أن ينتبه المشتغلون بالفكر بمثل هذه الظواهر ويتصدون لها بالتحليل، يفضلون استيراد أفكار أخرى رأت النور تحت سماوات أخرى.
لماذا يحدث هذا؟ أبسبب أن المشتغلين بالفكر لا يبصرون ولا يحسون بما يجري في المجتمع؟ أم أنهم تقليدانيون يفضلون الوقوف في وجه التحول، حتى ولو كان آتيا لا ريب في ذلك؟ هل ما زالوا يثقون في مقولة هيغل من أن الفلسفة تأتي في المساء؟
أو لربما أن للأمر علاقة بالجسد بما هو كذلك. لقد رأينا أن الفلاسفة، الذين أنتجوا ذلك الفكر الذي يتهافت عليه المشتغلون بالفكر (ترجمة وتعليقا وتحشية)، كانوا منخرطين في الفعل اليومي والدفاع عن تملك الجسد وتخليصه من أخلاق العبيد .ألا نعيش اليوم صراعا حادا بين التقليد والحداثة حول بنود من القانون الجنائي وخصوصا تلك التي تطالب برفع تجريم العلاقات الجنسية الرضائية بين الراشدين؟ ألا يشتد الصراع بين المتشبثين بزواج القاصرات والمطالبين بتجريمه؟ من المخجل أن تظهر الدراسة التي أعدتها النيابة العامة بالمغرب أن من بين هواة الزواج بالقاصرات أساتذة ومثقفون. هل من الضروري أن نستدعي نصوصا نشأت داخل تربة أخرى ونتناسى أننا نعيش مشاكل مرتبطة بالجسد في مغرب اليوم؟
وإلا ما هو التفكير؟ من هو المثقف؟ هل يعش في الواقع أم في الفانطازم؟
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير