استعملت عبارة الحرب القذرة في الإسبانية خلال المحاكم التي انعقدت للنظر في تجاوزات الأنظمة الديكتاتورية في الأرجنتين وبعدها في الشيلي. وكان الداعون إلى محاكمة السلطات، التي عمدت إلى قمع المعارضين تحت غطاء الدفاع عن حوزة الوطن ضد ممثلي السلطة، يحرصون على تسمية تلك الحملات القمعية بالحرب القذرة. لكن الموالين للسلطة كانوا يرفضون أن تسمى حربهم كذلك. والحرب القذرة هي تلك التي تمس المدنيين الذين لا يتوفرون على أي وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس، ويبقون بذلك معرضين لمختلف أنواع التجاوزات.
إنها حرب قذرة لأنها تؤثر على الكل ليس هناك جبهة للقتال، أي معركة يتم فيها تحديد المتحاربين. في هذا الخضم، يبقى الذين يؤدون الثمن فيها مباشرة هم أولئك الذين لا يتوفرون على حماية ما أي المدنيين. ولعل آخر حرب قذرة، رغم أن البشرية لم تستطع متابعتها مباشرة على وسائل الاتصال المرئية لأنها لم تكن متوفرة آنذاك بالقدر التي توجد عليه الآن، هي حرب الولايات المتحدة ضد جمهورية فيتنام الشعبية، حيث كان الجيش الأمريكي يمارس سياسة الأرض المحروقة بجميع الوسائل المحرمة دوليا، أو التي سميت كذلك، من القنابل العنقودية والنابالم إلى غير ذلك من وسائل الدمار.
وبعد انتهاء الحرب بفشل أمريكا في الحفاظ على احتلالها لفيتنام، تعرضت لنقد حاد من داخل الولايات المتحدة نفسها ومن سائر أنحاء العالم، خصوصا وأن عددا كبيرا من الصور خرج للعلن، وسمح بمعاينة الفظاعات المرتكبة، ناهيك عن العدد الكبير من الجنود الذين عادوا بعاهات مستديمة وخلل عقلي فظيع.
لذا، فطن صناع القرار الحربي الأمريكي إلى خطورة الاستمرار في هكذا ممارسات، واخترعوا لهذا الغرض مفهوما مغايرا أطلقوا عليه اسم “الحرب النظيفة“ والذي استعملوه لأول مرة إبان حرب العراق سنة 1991. ولقد صَدَّقَ عدد كبير من الناس كذبة الحرب النظيفة التي روجت لها الآلة الدعائية الأمريكية وساندتها الآلة الغربية الحليفة والتابعة لها. ومن يومه، لقي مفهوم الحرب النظيفة، التي يراد بها أنها تعتمد تكنلوجيا متطورة، وتستعمل أسلحة وقنابل مسيرة بالليزر، رواجا كبيرا في الصحافة وفي الاستراتيجيات الإعلامية التي تواكب الحروب. تقوم الأقمار الاصطناعية بتحديد المواقع بدقة لامتناهية، تم تعمد الطائرة المسيرة بإرسال القنبلة أو الرصاصة، أو لا أدري، لتصيب الهدف وحده وليس غيره. ليس من الضروري أن يكون الجندي أو ربان الطائرة في ساحة الوغى، بل لِقَنْبَلَةِ المجاهدين الأفغان، مثلا، يبرمج الجندي الأمريكي يوم عمله بأمريكا حيث يقيم على الشكل الآتي: يستفيق صباحا، يستحم، يتناول الفطور مع زوجته وأبنائه. وقبل أن يرافق أبناءه إلى المدرسة، يقبل رفيقة حياته بكل حنان ورقة، ثم يذهب إلى عمله الذي يتلخص في الضغط على بضعة أزرار ثم يتابع القنبلة وهي تمزق أشلاء الأفغاني دون أن يسمع أنينه أو يشتم رائحة دمه. إنه يتعامل مع صور تكاد تكون افتراضية.
كل هذا يعمل النظام الحربي على إظهاره لجمهور يَتَلَهَّفُ لمعرفة المزيد عما يحدث وكأنه يشاهد فيلما على المباشر. إلى جانب كل هذا، هناك دعاية كبيرة ورهيبة لأدوات الفَتْكِ في الحرب. وهكذا، عندما برهنت طائرات (F15 وF16) على قدرتها على كسب حرب نظيفة في العراق كما قيل إبانها، كان أول من اقتناها سنة 2004 هي دولة إسرائيل التي كانت تستعد لمغادرة قطاع غزة. ومنذ ذلك الحين، وإسرائيل تدعي أنها تقوم بحرب نظيفة لا تستهدف من خلالها إلا من تسميهم الأشرار أي مسلحي منظمة حماس الفلسطينية. بمعنى أن القنابل، والتي أصبحت اليوم تسمى ذكية، يقودها الذكاء الاصطناعي، تبحث عن الشرير. وإذا حصل واعترض طريقها أحد الأخيار، فإنها تتوقف وتغير الطريق وتستمر في البحث عن المطلوبين فقط.
إلا أن مفهوم الحرب النظيفة أظهر زيفه عندما علم العالم، سنوات بعد انتهاء حرب العراق، أن القنابل التي قيل عنها نظيفة كانت تحمل رؤوسا نووية مخصبة. وأن القنبلة بكامل ذكائها، لم تكن تقتل الأشرار فقط بل حتى الأخيار من جيرانهم ومن عائلاتهم كانوا يصابون هم أيضا بالإشعاع النووي. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن القنبلة التي تزن نصف طن وتحطم ناطحات سحاب وأحياء بكاملها، لا تقتل شخصا واحدا أو شخصين وإنما تأتي على البناية ومن فيها.
وبالأرقام، فإنه منذ أن بدأ الحديث عن الحرب النظيفة والقنابل الذكية، والحرب عن بعد، أي حرب المسيرات (الدرون) فإن من يؤدون الثمن هم المدنيون الأبرياء. هذا في كل الحروب وليس في الحرب الدائرة بفلسطين لوحدها. ودليل ذلك أنه وفي خلال عشرة أيام من الحرب الإسرائيلية على غزة كم قُتِلَ من أعضاء حماس من أولئك الذين صرحت بهم اسرائيل ومنظمة حماس على السواء؟ لا يتعدى عددهم العشرة وكذلك هو الشأن من جانب الجيش الإسرائيلي. في المقابل، كم عدد القتلى المدنيين؟
حرب نظيفة لمن؟
إنها حرب قذرة سوف تسكن ضمائر الأجيال، كما سكنت ضمائر الأوروبيين فظاعات الهولوكوست.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير