عندما نتأمل مجتمعنا بالعين وليس بالعقل، فإن أول ما نلاحظه هو تراجع الذوق وسيطرة ما يسمى بالرداءة. أكيد أنه من الممكن أن نعزو هذه الظاهرة إلى كون المجتمع يتحول من مجتمع تقليدي إلى مجتمع يمكن أن نسميه عصريا أو حداثيا بفعل الضغط العالمي. ولذا، فهو يُضيِّعُ عددا هائلا من القيم الحالية التي يمكن أن نسميها بالية، ليطور قيما جديدة تجعله ينخرط فيما يمكن تسميته بالكونية. يبقى السؤال: من أين تأتي هذه القيم الجديدة؟
بالعودة إلى تجارب الشعوب التي سبقتنا في هذا المجال، فإن إنتاج هذه القيم الجديدة يعود إلى نخب المجتمع. هذه النخب هي التي تؤسس للقيم الجديدة، تتبناها وتدافع عنها. وهذه القيم الأساسية تتأسس في مجالات الإتيقا والإستطيقا والسياسة. لنترك الإتيقا جانبا ولنترك السياسة أيضا، ولنركز على الإستطيقا، أو ما يترجم غالبا إلى العربية بشكل تقريبي بالجمالية.
ما نلاحظ أن جل مكونات النخب المغربية، وهي تقتسم ذلك مع النخب العربية، لا تنتج هذه القيم، بل تستوردها ثم تترجمها ترجمة غير صحيحة. استيراد القيم ليس شرا في حد ذاته، بل المشكل في أن المثقفين لا يعيشون هذه القيم كتجربة ذاتية ثم فكرية. الترجمة لا تصح إلا إذا كانت مؤسسة على حاجة ملحة تتطلبها الذات، وليس فقط الخطاب. عندما تستعير مفهوما أو قيمة ما أحسست بالحاجة الذاتية إليها، فإنها تصبح ملكا لك وتصبح أنت صاحبها لأنها تجيب على أسئلة حارقة طرحتها عليك ذاتك ومحيطك. لا يمكن أن نتبنى مفهوما فلسفيا أو فكرا نقديا فقط على مستوى الخطاب دون أن تكون الذات في حاجة إليه. لكننا نرى أغلب المثقفين والمبدعين يتبنون مفاهيم وخطابات فقط، من أجل ترديديها في المنتديات دون الإيمان بها فعلا ودون تبنيها. (حقوق المرأة والطفل، الحقوق الإنسانية كمثال)، ومن جملة هذه المفاهيم وأكثرها تداولا مفهوم الجمال.
الجمال يغطي كافة الأصناف الإبداعية: الكتابة (الشعر، الرواية، الفكر…)، الموسيقى، المسرح، السينما، الفنون البصرية، المعمار، الدزاين، دزاين الموضة…
لكننا، عندما نقرأ لكاتب أو شاعر ونتأمل حياته في بيته، أو من خلال الصور التي ينشرها على صفحات التواصل الاجتماعي، فإننا نلاحظ هوة كبيرة بين ما تقوله الكتابة وما تقوله الحياة. عندما ننبهر بإبداع معماري لمهندس معين ونقف على قراءاته أو مشاهداته السينمائية أو ما يسمعه من موسيقى، فإننا نصاب بالدهشة ونطرح السؤال حول منجزه المعماري. يصدق هذا على السينمائي والشاعر والتشكيلي… كيف يمكن لهؤلاء الذين بوأهم المجتمع مرتبة صانعي الذوق والسهر عليه أن يكونوا أول من يستهلك الرداءة؟
الرداءة في الفن ضُعْفُ هذا الفن، لكن ضُعفَهُ بالنسبة لماذا؟ إذا قلنا هذا عمل فني جميل وهذا رديء فإلى أي مرجع نستند لقول كلام كهذا؟ هل نأخذ الرأي الشخصي كمقياس، أم علينا الاستناد إلى تحليل ما أو العودة إلى مفاهيم متفق عليها؟
هناك الرأي العام العادي الذي يدعي أن الأذواق والألوان لا تناقش؛ على اعتبار أن لكل شخص رأيه وذوقه، وأن هناك أذواق بعدد الناس الموجودين في الكون، ومعنى هذا أيضا أن الحكم الجمالي مرتبط بنزوة الفرد، أي أن كل فرد يحب الأشياء والموجودات بمعزل تام عما تحب الناس المحيطة به؟
لكن عندما نلج إدارة أو نتابع جلسة للبرلمان أو للحكومة، عندما نحضر حفلات الأعراس أو أي مكان آخر حيث تتباهى الناس بمعرفتها لفن العيش، سوف نلاحظ أن الناس تلبس بذوق يكاد يكون موحدا. قد يختلف لون قفطان عن قفطان آخر، لكن منطق الألوان والأشكال يبقى موحدا. يعني أن هناك طريقة في ترتيب عناصر الشيء المبصور التي لا تختلف من شيء لآخر. فكرة الأشكال والألوان هذه مهمة، وعلينا أن نتوقف عندها. أهم شيء يدوم ويستمر داخل منظومة الذوق البصري هما الخط واللون.
انطلاقا من هذه القاعدة، هناك صناع الذوق. ليست الناس العادية التي تصنع الذوق؛ عموم الناس يستهلكون الذوق ولا ينتجونه. في حياتنا اليومية هناك صناع الذوق المنتشرون في كل حرفة. النِّجارة، الحِدادة، الخِياطة، السيارات، الأحذية، الأواني المنزلية، الطباعة، المعمار، البناء… التصميم بصفة عامة. في كل شيء تتناوله وتستعمله، إعلم أنه حامل للذوق أو قد يكون حاملا للرداءة.
في حياة المغاربة السابقة على صدمة الحداثة كنت عندما تدخل بيتا، وليكن في المناطق الجبلية الأمازيغية، سوف تجد الرسم الموجود في الآنية له قرابة مع الوشم الموجود على الجسد، وله ارتباط مع الرقش الموجود في الزربية وعلى ثوب الخيمة أو على جدران البناية. هذا التناغم هو الذي يؤسس للهوية البصرية. ويمكن أن تجده في المدن العتيقة. كان هناك نوع من التواصل الروحي بين صانع الذوق ومحيطه. لذا عندما نلج الأحياء العتيقة للمدن ينتابنا إحساس غريب أن هناك تناغما وتوافقا بين الناس وما تلبس والفضاءات التي تتحرك فيها.
أين كل هذا اليوم؟ لماذا لا نعثر عليه؟
ومن نطلب بالسهر عليه؟
النخب هي المطالبة بذلك.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير