لطالما وُصِفت العلاقات بين المغرب وفرنسا بأنها نموذجية، وتتمتع بما يكفي من الصلابة والقوة لتحمل تقلبات كل الظروف، والتعايش مع إكراهات وخلفيات “الولاء“ السياسي لساكني قصر الإليزي، كيفما كانت قناعاتهم أو ميولاتهم .إذن، ما الذي حدث حتى تتعرض هذه العلاقات “الدافئة“ لنزلة برد مفاجئة وحادة، كما لو أنها تضررت بشدة من المناخ المحيط، أو تأثرت بالرياح «القادمة من الشرق»؟
بدأت أولى بوادر الأزمة “المعلنة“ مع قرار باريس تخفيض عدد التأشيرات الخاصة بالمغاربة إلى أكثر من النصف. ثم جاءت قضية “بيكاسوس“، وما رافقها من حملات إعلامية فرنسية ضد المملكة، لتعمق أغوار الأزمة. وأخيرا تصويت نواب فرنسيين، أغلبهم من حزب الرئيس إيمانويل ماكرون، في البرلمان الأوربي على قرار غير ملزم ضد المغرب، ليصب المزيد من الزيت على النار…
هناك، حاول الساسة الحاكمون، كعادتهم كلما عبّر المغرب عن رد فعل صريح، التخفيف من حدة الخلافات، التي لا يمكن بأية حال، حسبهم، أن تؤثر على العلاقات الراسخة بين البلدين.
في عز هذه الخلافات “المعلنة“، صرح الرئيس ماكرون أنه في تواصل مستمر مع الملك محمد السادس، وأن العلاقات بينهما «أخوية وودية». غير أن الرد المغربي لم يتأخر، إذ نقل عن مصدر رسمي قوله: «إن تصريحات ماكرون لم تقنع الرباط… العلاقات بين البلدين ليست لا ودية ولا جيدة، سواء تعلق الأمر بالقصر أو بالحكومة المغربية».
تجسد الرد المغربي، فعليا أكثر، في عدم إرسال سفير جديد لدى باريس، لخلافة محمد بنعشبون، الذي عين مديرا لصندوق محمد السادس للاستثمار.
في المقابل، حاولت باريس “مسح“ أزمة التأشيرات على ظهر سفيرتها السابقة لدى الرباط هيلين لوغال، وعينت بدلها زميلها في الدبلوماسية كريستوف لوكورتيي، معتقدة أن من شأن ذلك أن يحلحل الأزمة، أو على الأقل أن يخفف منها في انتظار أيام أفضل. بيد أن لوكورتيي وجد نفسه داخل مقر إقامته، في العاصمة الرباط، يعد أيام تعيينه، أو يستقبل، بين الفينة والأخرى، نشطاء من المجتمع المدني المغربي. وأحيانا، يخرج لزيارة المدارس الفرنسية الموجودة في مدن المملكة، مع اكتشاف ما تزخر بها طبيعتها، وأيضا، اكتشاف الآثار التي بناها أجدادنا قبل أن يأتي الفرنسيون أنفسهم بقرون كثيرة…
يبدو أن سماء العلاقات المغربية–الفرنسية ستظل ملبدة بالكثير من السحب الطبقية الداكنة، ما دامت باريس، كـ“شريك تقليدي“ للرباط، لم تخرج من «المنطقة الرمادية» في تعاملها مع ملف الصحراء المغربية، الذي أصبح «هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات»، كما قال الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب .قبل أن يضيف: «لذا، ننتظر من بعض الدول، من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة، بخصوص مغربية الصحراء، أن توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل».
وكان لافتا أن الملك حين حرص على ذكر دول أوربية، وضحت “مواقفها” من قضية الصحراء، مثل إسبانيا وألمانيا وهولندا، لم يشر إلى فرنسا، فيما يمكن اعتباره إشارة واضحة، لا تقبل أي تأويل. لكن يبدو أن إيمانويل ماكرون يستمر في الرقص على حبلين، وتبني «مواقف غامضة أو مزدوجة»، وهي المواقف التي شدد فيها محمد السادس على أن المغرب لن يقوم مع أصحابها “بأي خطوة اقتصادية أو تجارية، لا تشمل الصحراء المغربية“.
ربما يسير ماكرون في السير على خطى من سبقوه إلى الإليزي، الذين ظلوا يتوهمون، دائما، أن بإمكانهم الاستمرار في ممارسة “أبويتهم“ على المغاربة، دون أن يدركوا أن الزمن تغير، ومعه تغيرت الأجيال والنخب، وبالتالي، تغيرت الأفكار والقناعات.
صحيح أن العلاقات بين الرباط وباريس لم تكن، أبدا، سلسة على الإطلاق، أو مجرى ثابتا. بل لقد طبعها، دائما، شغف قوي. كما تشترك العاصمتان في فرض جاذبية مثيرة ومتناقضة في الآن نفسه، لكن غالبا ما تكون سلمية، حتى وإن وصلت، في بعض الأحيان، إلى حد التضارب.
يمكن القول، الآن، إن الرهان يجب أن يكون على أن درجة الحمى الحالية ستنزل في النهاية. وأن المصالح المتبادلة والمفهومة جيدا، بين الطرفين، ستستعيد بسط يدها العليا، إن حظيت، طبعا، بدعم عين عقل رجال الدولتين وحكمة نخبهما.حينئذ، يمكن التوجه إلى المستقبل معا، وندا للند بالمفهوم الإيجابي، دون الارتهان إلى مخلفات الماضي.
يوسف شميرو
مدير النشر