عندما عَيَّنت السلطة الجديدة في سوريا سيدة على رأس شؤون المرأة في هذا البلد، تحدثت المعنية بالأمر عن الدستور وعن صعوبات صياغته ومحاولة ملاءمته مع تطلعات المجتمع وهويته الإسلامية. ولفت نظري في ذات السياق سيدة سورية، يبدو أنها مؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي، توجهت إلى المسؤولة الجديدة بنصيحة مهمة. جود عقاد، وهذا اسم المؤثرة، نصحت المسؤولة السورية الجديدة بأن توفّر الجهد والوقت والمال وأن تنتبه إلى ما عاشته في تركيا حيث أقامت لاجئة لمدة عشر سنوات. قالت متوجهة للمسؤولة إياها: «بما أنَّكِ عشتِ في تركيا ورأيتِ كيف أن الناس تتعايش هناك تحت سقف دستور علماني، وبما أنكم أَمَّنْتُمْ تركيا على الحدود والهويات والتكنولوجيا وكل شيء، فإنني أنصحكِ بأن تأخذوا دستور تركيا وتطبقوه في سوريا»… كما أكدت لها أن السوريين سوف يكونون مبتهجين بهذا الأمر.
ذكرتني نصيحة السيدة جود عقاد بنصيحة شباب المغرب الذين عرفوا بمشروع دستور 1908 واقترحوه على السلطان المغربي آنذاك. وكانوا، هم أيضاً، قد نصحوه في ذلك الزمن المبكر من التاريخ بأن يَحْتَذِي حذو تركيا التي كانت تعيش وضعاً مشابهاً لوضع المغرب. قدموا له نصائح مهمة فيما يخص الحريات الفردية ووضعية المرأة والتعليم ونظام الحكم .لكن الحركات الإسلامية المتشددة التي ساندت مولاي عبد الحفيظ وأوصلته إلى السلطة –في تحرك يكاد يشبه تحرك ميليشيات سوريا في أيام معدودة من شهر ديسمبر سنة 2024 – كانت تريد، هي الأخرى، دستوراً مستمداً مما كانت تعتقد أنه مصدر التشريع الوحيد. فانكفأ المغرب على نفسه، وقدم الدليل القاطع للقوة المحتلة على أن الشعب متخلف ومتشدّد وعدواني، ولذا وجب إخراجه من عصور البربرية والهمجية، وليس هناك من وسيلة أخرى غير احتلاله وإخضاعه لقوانين الحضارة. وهكذا كان. تزامن هذا الحدث السوري والإشارة إلى تركيا مع جدل دائر في المغرب حول إصلاح مدونة الأسرة. وأدهشني تطابق رأي السيدة المسؤولة السورية مع رفاقها في المغرب، سليلي تلك الجمهرة من الناس التي ساندت مولاي عبد الحفيظ ضد أخيه مولاي عبد العزيز الذي اتُّهِمَ بميله لحداثة الغرب (لم تكن العبارة جارية آنذاك). واستخرجوا حكايات أكثرها، إن لم يكن كلها، كذب وبهتان عن السلطان وشغفه باللعب واللهو والابتعاد عن تسيير أمور المسلمين ومحاربة الكفار. فكان أن تنحّى مولاي عبد العزيز –وحسناً فعل– ليوقّع على الاحتلال أخوه، رئيس جمهور المجاهدين.
لكن المجاهدين الذين كانوا يجهلون حتى جغرافية المغرب آنذاك – إذ لم يكونوا يعلمون من أي جهة سوف يدخل العدو – أصحاب مولاي عبد الحفيظ، لم يكونوا منافقين. كانوا خائفين من المستقبل، ذات المستقبل الذي تجرّعوه سماً قاتلاً بعد الاحتلال.
أما سلالتهم التي تعيش بيننا اليوم، فإنها مُغرقة في النفاق العقدي والسياسي. ونبدأ بكُبرائهم. أين يدرس أبناؤهم؟ ما هو نموذجهم الإيديولوجي والسياسي؟ ألا يعتبرون أن أردوغان زعيمهم الروحي؟ ألا يُمَجّدون دائماً نجاح النموذج التركي اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً؟ ومن أين جاء نجاح تركيا على كل هذه المستويات؟ أليس بفضل دستور يحمي الجميع، ويعطي الفرص لكل المواطنين بغض النظر عمّا يختلفون فيه من حياة الدنيا؟
دستور تركيا دستور علماني بامتياز، وهذه بعض خصائص علمانية تركيا. بفضل قيادة مصطفى كمال أتاتورك، أصبحت العلمانية جزءاً أساسياً من الإصلاحات لتحديث البلاد وتحويلها إلى دولة قومية حديثة. وهكذا تم الفصل التام بين الدين والدولة، وبقيت الدولة تقف على مسافة واحدة من كل المعتقدات، سواء تعلق الأمر بالدين أو الإيمان (حرية المعتقد وحرية الضمير). وليس هذا فقط، بل إن التشريع استُمدّ من الحياة اليومية للناس، وليس من نصوص دينية لطائفة معينة أو من أطر اجتماعية تُفاضل بين الأجناس وأفراد المجتمع (النساء، الرجال، الأطفال). هذا ما سمح للكل بالانخراط في مجتمع واحد والعمل على التقدم.
وبعد اثنين وعشرين سنة على صعود تيار الإخوان المسلمين بزعامة أردوغان إلى الحكم في تركيا، لم يتغير الدستور، ولم تتغير، بالخصوص، علمانية تركيا. بل إن أردوغان كرر في كثير من المناسبات أن تركيا علمانية وسوف تبقى كذلك لأن قوتها من علمانيتها.
لماذا لا يُكَفِّرُهُ رفاقه الذين يعيشون بيننا؟ أولئك الذين، ومنذ زمن، يقفون سداً منيعاً أمام كل ما من شأنه أن يحرر الأفكار والعقول من ظلام القرون الوسطى الدامس؟ هل تركيا تستحق أكثر مما يستحق المغرب؟ أو على العكس من ذلك، هل تركيا كافرة لأنها أقرت العدالة بين الجنسين؟ هل الشعب المغربي أقل نضجاً من الأتراك؟ أو أن المستعملين للإسلام عندنا يتعاملون مع العالم بوجهين مختلفين؟ هل الحرية التي منحها دستور تركيا لأفراد الشعب، رجالاً ونساءً، منذ ما يزيد على القرن، دفعت التركيات إلى الزنا والأتراك إلى اللواط والمجتمع إلى التفكك؟ إذا كان شيء من هذا قد حدث بذلك البلد، فلماذا لا يدينه ويندد به جمهرة الداعين إلى العودة إلى الماضي؟
أوَليس هذا هو النفاق بعينه؟
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير