تتنافس كل من فرنسا وإسبانيا على حيازة موقع الشريك التجاري الأول للمغرب، وتلعب ثوابت الجغرافيا ومتغيرات التاريخ دورا محوريا في تفسير هذه الوضعية التنافسية. فالجوار والإرث الاستعماري يقدمان عناصر إجابة لفهم سر السباق نحو الظفر بالريادة في مجال الشراكة الاقتصادية مع المغرب. ألم يتحدث رئيس الحكومة الاسبانية الأسبق خوصي ماريا أثنار عن وضع بلاده بين فكي كماشة أو بين نارين كلما وصلت متانة العلاقات المغربية الفرنسية أوجها؟ وهي العلاقات التي تعرضت للاهتزاز مؤخرا، وشعر المغاربة بالإهانة جراء تصريح منسوب لدبلوماسي فرنسي يقول فيه: “إن المغرب بمثابة العشيقة التي ننام معها كل ليلة، والتي لا نحبها بالضرورة، لكننا مُضطرون للدفاع عنها”. والواقع أن هذا الإحساس بالإهانة من قبل دبلوماسي فرنسي ليس جديدا، فما بدر من فرانسوا دولاتر، السفير الفرنسي في الولايات المتحدة، لا يقل وقعا عما صدر قبله من سان روني طاياندي مطلع سنة 1905 ، وهو القادم إلى المغرب بحزمة “إصلاحات”، أصر على فرضها بالقوة أمام مجلس الأعيان، الذي انتدبه السلطان مولاي عبد العزيز للقائه. فلم “يقصر في التطاول والجسارة والطيش والقوة، حتى قال لهم: إنما أنتم صرتم من دولتنا (…) وإن لم تساعدوا على الشروط المطلوبة فإن يد الفرنسيس طويلة عليكم”. كما توضح رسالة تصف اجتماعا عقده السلطان مع أعضاء مجلس الأعيان، للتعقيب على وقائع الجلسة الأولى مع السفير الفرنسي. وتضيف نفس الرسالة “فقال لهم، بأعلى صوته – قائد المشور- يقول لكم سيدنا أعزه الله ونصره: إن ما صدر به العدو الكافر من الطيش وسوء الكلام، فإنه أساء الأدب علينا”. لم يكن السفير الفرنسي ليتكلم بتلك النبرة الاستعلائية لولا تأكده أنا فرنسا ضمنت فعليا احتكارها للمالية المغربية، عبر قرض مالي بقيمة 62.5 ملون فرنك سنة 1904، حصل كونسورسيوم بنك باريس والأراضي المنخفضة على امتياز منحه للمغرب، مقابل وضع اليد على المستقبل المالي للبلاد والتحكم فيه.
وتحدثت إحدى المجلات الفرنسية، المتخصصة في الشأن المالي، عن هذه الصفقة في حينها بالقول: “إنه نادرا ما شهدنا غزوا من هذا القبيل قام به البنك بتواطؤ رسمي”. فانفردت فرنسا بصفة الدائن للمغرب، وهي وضعية سمح حق الأفضلية الممنوح للكونسورسيوم باعتبارها راسخة، كما ذهب إلى ذلك المؤرخ الفرنسي بيير كلين. والواقع أن هذه الوضعية تكرست وتعمقت خلال فترة الحماية، وامتدت بأشكال وآليات مختلفة حتى بعد نهاية عهد الحماية. فوزير المالية المغربي عبد القادر بنجلون كان قد أعلن في مؤتمر صحفي، بمناسبة تقديمه للميزانية العامة وميزانية التجهيز يوم 11 غشت سنة 1956، أنه إزاء الضائقة المالية الجديدة يوجد المغرب أمام أربع خيارات: إما رفع الضرائب، وإما الاقتراض المحلي، وإما نهج سياسة التضخم، أو اللجوء إلى المساعادات الخارجية . وانتصر للخيار الأخير بالقول: “أنا متأكد من أننا سنحصل من الحكومة الفرنسية على القروض اللازمة لنا، لكن يتعيّن علينا الاشتغال على ذلك لدى البرلمان”. كان ذلك يعني على المستوى الاقتصادي أن الحضور الفرنسي في المغرب، عبر مؤسسة الحماية، لم يكن مجرد مرحلة انتقالية عابرة، بل جرت العودة في أكثر من مناسبة إلى إعادة تثبيت هذا الوجود، عبر منح امتيازات للاستثمار والتدبير للعديد من الشركات الفرنسية. ألا يشكل منح التدبير المفوض لقطاع الماء والكهرباء بمدينة الدار البيضاء سنة 1997 لنفس الشركة الأم التي تولت تدبير القطاع بين 1915 و1961 تعبيرا على أن فترة المغربة بين 1961 و1997 كانت مجرد قوس جرى إغلاقه؟ يتساءل الباحث محمد لهبوب.
سبق للرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت أن نبه السلطان محمد بن يوسف، على هامش لقاء أنفا سنة 1943، إلى هيمنة فرنسا على جميع الموارد الطبيعية المغربية، واستفادتها بالتالي من مداخيل هذه الموارد. واقترح عليه فكرة برنامج للتبادل، يسمح بإشراك المقاولات الأمريكية، وبإمكانية تحكم المغرب في ثرواته. وسخر شارل دوكول من الأمر، لعلمه أن هامش التحرك أمام السلطان على هذا المستوى ضيق للغاية. حيث قال: “عندما كان الرئيس روزفلت يعرض مباهج الاستقلال أمام جلالتكم في أنفا، ماذا عرض عليك غير المال وأن يكون لك مكان بين زبنائه؟”. لكن بنهاية الحرب العالمية الثانية انتصرت الولايات المتحدة لمخطط مارشال، القاضي بالنهوض باقتصادات دول أوروبا الغربية، وتوارى الاهتمام بالمستعمرات ومن بينها المغرب.
ليس مهما أن يكون الشريك الأول فرنسيا أو إسبانيا أو أمريكيا، قد يكون من المفيد تنويع الشركاء، للعب ورقة المنافسة ونيل أحسن العروض. لكن الأهم هو تأهيل الذات وتعزيز قوتها التفاوضية، لتمنيعها من الاستغلال أولا والإهانة ثانيا. فالعبرة بالربح والمكاسب السيوسيواقتصادية لأي شراكة. لقد كان الباحث الأمريكي كريكوري وايت بليغا ومعبرا في معالجته لموضوع الشراكات المغاربية مع أوربا، واختار أن يختم كتابه بفصل عنونه بسؤال يحمل أكثر من دلالة “who’s winning ” من الرابح؟
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير