بعد توقيع رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية سعد الدين العثماني للاتفاق الثلاثي، والذي بموجبه اعترفت أمريكا بسيادة المغرب على صحرائه، فيما استأنف المغرب علاقاته مع إسرائيل، وهو الموقف الذي دعمته الأمانة العامة لحزب العثماني في بيانين منفصلين، قبل أن يخرج المجلس الوطني للحزب نفسه، مؤخرا، ببيان يحيي فيه الكفاح الفلسطيني ضد “الاحتلال الصهيوني الغاشم“، وينبه فيه لـ«لمخاطر الاختراق التطبيعي على النسيج السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي».
لا يمكن وصف ما وقع إلا بحالة من التخبط والتردد، بل والتناقض في المواقف والضبابية فيها وعدم الوضوح، يوقع الحزب على التطبيع ثم يرفض التطبيع، يساند الملك في توجهاته لإقامة علاقات ودية مع إسرائيل، ويندد في الوقت ذاته بـ“المحتل الصهيوني الغاشم“ ويحذر من مخاطر التطبيع معه، حالة فعلا عصية على الفهم وعلى المنطق بكل موضوعية، هل يعقل أن يكون الحزب ضد ما يقوم به الحزب؟ وأن يستنكر الحزب اختيارات الحزب؟ وأن يدعم الحزب هنا أمينه العام ويستنكر هناك ما قام به أمينه العام؟
حزب العدالة والتنمية، مهما، اختلفنا معه لاعب رئيس في المشهد السياسي، وله سجل في المواقف الوطنية التي تحسب له، وليس من مصلحة أحد إضعاف هذا الحزب أو استنزافه كما حصل لأحزاب أخرى، لكن هذا التذبذب والتناقض في المواقف من حزب بنى شرعيته على المبادئ والمرجعية الدينية بكل ثقلها الأخلاقي، ليس من شأنه إلا المضي بالحزب نحو مستقبل لا يريده له أحد.
مواقف الأحزاب السياسية بقيمة “العدالة والتنمية“ تبنى على الوضوح، والدفاع عن المواقف بكل شفافية ومنطقية، فإذا كان الحزب مع التطبيع مراعاة لمصلحة الوطن، فليدافع عن اختياره، وليعلن مراجعته لكل مواقفه السابقة، مع بيان أسباب المراجعة وسياقاتها. وإذا كان ضد التطبيع فليعلن عن ذلك أيضا، وليسجل تحفظه على ما يجري من تطورات بخصوص هذا الملف، أما أن تسعى لإرضاء الكل دفعة واحدة، فتخطب ود المؤسسة الملكية، وترضي قواعد الحزب، وتستجيب لمطالب الحركة الدعوية المساندة وتنظيماتها الموازية، وتعمل على عدم تضييع أصوات الناخبين في سنة انتخابية، حتى إنك تتبنى الخطاب والخطاب المضاد له، فإن النتيجة لن تكون سوى الاتهام بالانتهازية والوصولية وازدواجية الخطاب.
من الواضح جدا، أن حزب العدالة والتنمية يعيش أزمة حقيقية وعميقة بخصوص ما يقف أمامه من تعارض بين المرجعية والهوية والمبادئ المؤسسة والشعارات الإصلاحية من جهة، وبين كيفية تدبير الملفات الكبرى وحدود المرونة اللازمة والبراغماتية المطلوبة، وليست هذه الأزمة بشيء جديد على الحزب، بل هو مخاض يعيشه منذ مدة طويلة، دون أن تجد له الحلول الواضحة، ودون أن تضع له الخطة اللازمة.
ما زال الحزب في كل المحطات الحرجة يكتفي بالتبرير، وعند كل مأزق يحشد كل أسلحته البيانية والفقهية و“المقاصدية“ ليشرعن لاختياراته الجديدة، وليعالج حدثا طارئا بما يحافظ له على مصداقيته أمام الناخب الذي أعطاه صوته. وبعد اجتيازه لكل أزمة، ينتظر أزمة جديدة ليبحث لها عن مبررات جديدة، دون أن تكون له مبادرة الاجتهاد، والنظر في الخيارات والاستراتيجيات، بل ومراجعة الأصول والأسس، لبناء هوية جديدة، تتناسب ومتغيرات الواقع ومتغيرات الحزب أيضا، وتجربته في السياسة والحكم، بكل عقلانية وعمق نظر. لا يقع شيء من هذا للأسف، كلها ردود أفعال آنية، ومحاولات براغماتية للتكيف مع الواقع الجديد، مما ينتج ترددا وتخبطا ليس من مصلحة الحزب ولا مصلحة من صوت عليه.
استوقفتني، خلال المناقشات التي عرفتها جلسات المجلس الوطني لحزب المصباح، مداخلة أحد الأعضاء، وهو يعبر بكل صدق وتلقائية عن واقع كثير من القواعد: «نحن انتمينا إلى هذا الحزب لأنه حزب بمبادئ معروفة ومرجعية معروفة، فإذا غيرتم وتراجعتم عن هذه المبادئ وعن هذه المرجعية، فينبغي أن تصارحونا بهذا الأمر لنعرف ماذا نفعل». ليس التغيير بعيب، ولا المراجعة بنقص، لكن حزب العدالة والتنمية قد استنفد كل مخزونه الإيديولوجي، وبلغ مرحلة الشيخوخة النضالية .لذا، فهو محتاج اليوم إلى حوار داخلي حقيقي، وإلى مراجعة جذرية للأسس التي قام عليها الحزب، وإلى نقد ذاتي ومراجعة شاملة، بما في ذلك طبيعة النموذج التنظيمي والسياسي الذي تفرضه المرحلة الراهنة، وبما في ذلك أيضا ما كان يعتبر من المسلمات والخطوط الحمراء.
حزب العدالة والتنمية محتاج أيضا لتجديد دمائه، وتوظيف فقهه المقاصدي بشكل استباقي، وليس على قاعدة “دعها حتى تقع“، لإنتاج أطروحة جديدة، وأفق جديد، وقيادة جديدة، حتى لا يقع في الإحراج مرة أخرى، وحتى لا يتهم مستقبلا لا باستغلال الدين، ولا بالانتهازية والوصولية، وذلك كله لن يكون إلا في مصلحة الوطن.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي