طرح مشكل علاقة السياسة بالفن في المغرب على الأقل مرتين خلال شهر واحد، بل خلال أسبوع وبالنسبة لحقلين فنيين مختلفين. وكانت هذه المناسبة التي أعاد فيها الجميع وبكلمة واحدة أن لا علاقة للفن بالسياسة، إذ للفن قواعده وللسياسة قواعدها وأن هَمَّ الفنان هَمٌ جماليٌ محضٌ لا تتدخل فيه السياسة ولا يتدخل المبدع في شأن السياسي. طرح أمر علاقة الفن بالسياسة، عندما بادرت السلطات المغربية في شخص المركز السينمائي المغربي إلى إصدار أحكام وعقوبات في حق مخرج فيلم حديث، نال جوائز خارج المغرب وداخله، ونَوَّهَ به عدد من نقاد السينما المغاربة والمهتمين بالفن السابع. اسم الفيلم: “زنقة كونتاكت“ .سبب معاقبة السلطات السينمائية المغربية لمُخْرِجِ الفيلم إياه أنه على ما يبدو وَضَّبَ، داخل نسق فيلمه، أغنية باللهجة الحسانية لسيدة صحراوية تمجد الانفصال وتدعم البوليساريو .بل إنه، وحسب منتقديه، لم يكتف بدمج الأغنية، بل إن المخرج نوه بها على لسان ممثلته الرئيسة حيث تقول «إن الصوت صاروخ مُغَمَّسٌ في العسل». فبينما رأى المنتقدون في هذه العبارة تمجيدا للعمل المسلح لجماعة البوليساريو، صرح المخرج أن الأمر يتعلق فقط بموقف جمالي.
في الأسبوع نفسه، طفحت إلى سطح الساحة الإعلامية المغربية مشكلة أخرى، وإن كان لها ارتباط بالموسيقى فإن موضوعها يتعلق بأخلاق وتصرفات مغني شاب ينتمي إلى صنف الراب. فَوِفْقَ ما نشر على صفحات الجرائد، فإن المغني تلفظ بعبارات لم يستسغها البعض، فسارع إلى انتقاده مما دفع المغني إلى الرد بعبارات اعتبرت قذفا وتجريحا .الخلاصة أن الذين أحسوا بالضرر لجأوا إلى القضاء، فألقي القبض على المغني لينطلق النقاش ويغطي على الفيلم. وهنا، أيضا، انقسم الجمهور إلى قسمين: قسم يُحاكِمُ وفق الأخلاق وآخر يدافع عن الفنان على اعتبار حرية التعبير، وأن الفنان لا يهتم، بل لا يفهم في السياسة كما جاء على لسان المحامي الذي استعمل عبارات النقد الجمالي من قبيل الإبداع والخلق والجمال…
في كلتا الحالتين، لجأ المدافعون إلى رفع حجة الإبداع وعدم أو استحالة الربط بينه وبين السياسة. هذه المُسَلَّمَةُ التي لازمت الساحة الفنية المغربية منذ نهاية السبعينات، يبدو وكأنها أصبحت قانونا كونيا في العرف المغربي .فهل صحيح أن الأمر يتعلق بالسياسة أو بالسياسي؟ إذا كان لا بد من التوضيح أن الفنان لا يخضع للسياسي منذ انبجاس الحداثة، فإنه على العكس من ذلك مُنْغَمِسٌ في السياسة إلى الحد الذي يمكنني المجازفة بالقول «إنه لا فن بدون سياسة». أكيد أن هذا التقليد دخل إلى الساحة المغربية مع بداية الثمانينات، أي في تزامن مع ما سمي بعد ذلك بسنوات الرصاص، ولكنه تزامن أيضا مع حملة كبيرة كانت تقودها آنذاك المخابرات الأمريكية لتحييد المثقفين في العالم، من الصراع الإيديولوجي بين الشرق والغرب. من هنا، أصبح الحديث عن الفنان وكأنه كائن غريب يعيش في جزيرة ولا يعبأ بما يدور حوله. فعوض الحديث عن الاستقلال عن السياسي، أصبح الحديث يدور حول تطليق الفنان للسياسة، بل ومخاصمتها.
وحتى لا نتيه في المجردات، دعونا نعود لموضوعينا ولنبدأ بالفيلم. هل السينما تبني مواضيعها بناء على مفاهيم مجردة دون الانغراس في الواقع؟ هل التخييل بما هو كذلك يتم خارج إطار المرجعيات الحياتية التي تجعل المتلقي يتقمص الشخصيات ويستهيم معها، بل ويعيد تركيب العمل الفني السينمائي وفق نظرته ومن خلال معيشه؟ هذا على مستوى الكتابة، أما على مستوى الفيلم موضوع النقاش. ما هو موضوع أغاني السيدة التي أدمجت في الفيلم؟ اطلعت على أغانيها فوجدت شيئين: لا شيء يوشي بأن هناك ما يمكنه أن نصنفه في خانة الجمالي أي ذلك المفهوم الذين تأسس في فلسفة هيغل، وجدت على العكس قالبا غنائيا تقليديا حسانيا ينتمي لعصور خلت أُدْخِلَتْ فيه مواضيع حماسية .لكن يبدو أن المخرج أعجب بالصوت .من هذه الناحية، هناك أصوات لا تعد ولا تحصى بالصحراء وموريتانيا أقل نُحَاسِيَّةً وأجمل بَحَّةً من صوت تلك السيدة. تعلمت هذا من علاقتي منذ الطفولة بهذه الأصوات من خلال راديو موريتانيا قبل أن يعترف بها المغرب. هناك صوت قوي وهذا صحيح، ليس بالضرورة مُطْرِبٌ، ولكنه موظف لشيء واحد وهو الدعاية السياسية، أي بمعنى خضوع ”الفنان” لطلبات السياسي.
فيما يتعلق بالشاب المغني وزَعْم أن لا علاقة له بالسياسة. إذا لم تكن له علاقة بالسياسة فيمكن اعتباره ساذجا لا يفهم أسس فن الراب. فهذا الفن كجميع الفنون الحضرية (Arts Urbains) تأسس على الرفض والنقد وإعادة النظر. فن الراب لا يدعي الإبداع، بل هو فن متوحش فوضوي يكسر جميع الطابوهات وخصوصا السياسية منها .الذين يريدون جعل ساحة الشاب خلوا من السياسة، يبحثون له عن مخرج لينتج فنا ودودا وديعا لا يزعج؛ فن ترفيهي .(Il Amuse) السينما فن يسائل وينتقد، والراب يهدم ويشاكس. أسلوبان مختلفان لممارسة السياسة دون الخضوع للسياسي.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير