تلقيت قبل شهور دعوة من اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي للمثول بين يديها، والمشاركة في حوار فكري حول بعض قضايا الدين والاجتماع. كان واضحا من خلال الأسماء المشاركة ومن خلال ما طرح علينا من أسئلة أن اللجنة تريد الاستماع لكل الأطراف المتدخلة في الموضوع، وأنها على وعي بما يمثله الموضوع من حساسية، وبما يعرف النقاش حوله من تجاذب فكري وإيديولوجي.
قبل أيام، قدمت اللجنة تقريرها للملك، وكان من الطبيعي العودة لما رأته واقترحته بخصوص هذه القضايا التي تعرف جدلا مستمرا ونقاشا داخل المجتمع. الملاحظة العامة، التي يمكن تسجيلها، هي أن اللجنة لم تغفل الحديث عن هذه القضايا، رغم أنها أثارت حساسية الحديث عنها لارتباطها بالدين، «ومن جهة أخرى، تبينت صعوبة الخوض في مناقشة العديد من المسائل لارتباطها المباشر بالدين، فإعادة النظر في هذه القضايا، أخذا بعين الاعتبار الحقائق والواقع المعاش للإنسان والسياق الحالي، تبدو بالنسبة للبعض كخرق صريح للتعاليم الدينية»، ورغم أنها قد تكون مخيبة لآمال كثير من دعاة حقوق المرأة والحريات الفردية، إلا أنها برأيي قد أرسلت إشارات واضحة لضرورة الإصلاح في عدد من القضايا والإشكالات الاجتماعية المرتبطة بالدين.
أول ما استوقفني من ذلك توصية اللجنة بتنفيذ إصلاحات جريئة بكل من مدونة الأسرة، وقانون الجنسية المغربية، والنموذج المغربي في مجال تدبير الحقل الديني، ورغم أن اللجنة لا تقدم رؤية واضحة لهذه الجرأة، أين تبدأ وأين تنتهي؟ ما هو سقفها وما هي أولوياتها؟ إلا أن إيراد المصطلح ووضعه ضمن التقرير، وفي سياق الحديث عن مدونة الأسرة ومجال تدبير الحقل الديني، بكل ما لهما من حساسية سياسية واجتماعية، فيه اعتراف واضح بوجود الأزمة، وفيه إشارة واضحة إلى ضرورة الإصلاح رغم ما قد يكون من اعتراض أو ممانعة، زكت اللجنة طرحها هذا بالحديث عن الاجتهاد الديني وضرورة الأخذ بالمقاصد العامة للإسلام ومراعاة المصلحة العامة، وكلها مؤشرات بالإيجاب.
ورغم كل ما توخته اللجنة من حذر في التعامل مع هذه القضايا، فقد كانت واضحة وحاسمة في بعضها، إقرار مسؤولية الأب في حالة ولادة طفل خارج الزواج، اعتمادا على التقنيات والاختبارات الجينية، وتدقيق السلطة الممنوحة للقضاة فيما يخص الترخيص بزواج القاصرات وتقييدها، وإعطاء الولاية القانونية على الأطفال للوالدين معا، وكلها قضايا كانت محل ترافع كثير من أنصار حقوق الإنسان والمرأة، ولا شك أن تنزيل هذه التوصيات سيكون مكسبا إنسانيا وإنجازا وطنيا.
لكن ذلك برأيي لم يكن كافيا في اقتحام بعض الإشكالات الاجتماعية، بقي الحديث عن الإجهاض مبهما، وتمت الإحالة فيه إلى النقاش الذي بدأ منذ سنوات والذي لم يحسم إلى اليوم. وقضية التعصيب في الإرث، برأيي، لم تكن بحاجة لكل هذا الحذر في التعاطي، حيث رأت اللجنة إمكانية إخضاع تطبيقه للقضاة، أخذا بعين الاعتبار كل حالة بحدة، ليس التعصيب بنص في القرآن ولا من قطعيات الدين حتى يتعامل معه بكل هذا الحذر، رغم كل ما يظهر فيه من عيوب ونقص في سياقنا المعاصر.
تعرض تقرير اللجنة للحديث عن الحريات الفردية بإطلاق وعموم، لكنه لم يلامس واقع هذه الحريات ولا مجالات تنزيلها، لم يحدد موقفا واضحا من حرية الاعتقاد، ولا من العلاقات الرضائية خارج الزواج، ولا من الأقليات الجنسية، ولا من عقوبة المفطر في رمضان، ولا من فصول القانون الجنائي المثير للجدل.
أكثر من ذلك، تقرير اللجنة جعل سقفه الزمني في حدود 2035فيما أحالت حين الحديث عن القيم إلى دستور 2011ألا يدرك واضعو التقرير ما وقع من تحولات قيمية خلال عشر سنوات، وما هو مترقب حدوثه خلال خمس عشرة سنة قادمة؟ كيف لا نجد في كل تلك الصفحات حديثا عن عقد اجتماعي جديد، أساسه المواطنة، وتتعايش في ظله كل التوجهات والقناعات والاختيارات، وتتوارى فيه الانتماءات الإقليمية والدينية والثقافية والجنسية، ويبنى على تكافؤ الفرص والعدالة والاجتماعية والارتباط بين الحقوق والواجبات؟
من الواضح جدا أن ما قامت به اللجنة رغم كل الملاحظات جهدا يستحق التقدير، لكن التحدي الحقيقي هو في تنزيل ما جاء به التقرير، كيف ستتفاعل الأحزاب السياسية والمؤسسات التشريعية والتنفيذية مع التوصيات والاقتراحات؟ ما مدى إمكانية تطوير ما جاءت به الخلاصات؟ ما هي آليات المتابعة والمراقبة؟ دعونا نترقب المشهد، وكلنا أمل في مغرب أفضل وأجمل.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي