الليبنسراوم (Lebensraum) بالألمانية أو البيئة الحيوية مفهوم جيو–سياسي يحيل على فكرة أرض كافية لضمان بقاء شعب، خصوصا ثقافيا وحضاريا، في مرحلة أولى لتعزيز نموه ومن خلال تأثيره الجغرافي في مرحلة ثانية .هذه هي الفكرة المركزية في إيديولوجية النازية والتي طورها أدولف هتلر وأتباعه قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، والتي اقتضت احتلالها لمناطق هائلة خصوصا من أوربا الشرقية. هذا المبدأ كان (على عهد النازية) متجذرا في الاعتقاد، ومفاده أن الشعب الألماني (Volk) يحتاج إلى مزيد من الأراضي للنمو والازدهار. نشأ مفهوم (Lebensraum) في ألمانيا من خلال الأفكار الجيو–سياسية التي تأثرت بنظريات طرحها الجغرافي والإثنولوجي الألماني فريدريش راتزل (Friedrich Ratzel 1844-1904) والذي اعتبر أن الشعوب، مثل الكائنات الحية، تحتاج إلى مساحة للبقاء والنمو.
ووفق هذا المنظور، كان لزاما أن يتقرر من هو الشعب الذي يستحق أن تكون لديه المساحة الكافية لكي ينمو ويتطور بكامل أريحيته. ولهذا، ارتأى هتلر والمفكرون النازيون أن هناك شعوبا أسمى من شعوب أخرى وهي التي لها الحق في النمو على حساب الشعوب الدنيا. من هنا، تقرر الغزو لتوسيع الدائرة الجغرافية للمجال الحيوي (Lebensraum) للشعب الجرماني. فكان أن انطلقت الحملات العسكرية مثل غزو بولندا في عام 1939 وعملية بارباروسا (Barbarossa) ضد الاتحاد السوفياتي في عام .1941
وكان من نتائج هذا الغزو العنيف نزوح جماعي للسكان، وعمليات قتل جماعي وتنفيذ سياسات إبادة جماعية. كما تضمنت الخطط النازية ترحيل وإبادة ملايين الأشخاص لإفساح المجال للمستعمرين الألمان. كما كان المخطط يهدف إلى جرمنة (Germanisation) المناطق المحتلة وفرض الثقافة الألمانية بها قبل إرسال آلاف المستعمرين الألمان إلى هذه الأراضي لإنشاء مستعمرات وتثبيت الهيمنة الدائمة. وهذا ما أدى إلى جرائم ضد الإنسانية، وكذا إلى إبادة جماعية لليهود (الهولوكوست) والسلاف والغجر وعدد كبير من الأقليات الضعيفة التي لم تكن تتوفر على حماية دولية قادرة على كسر شوكة النظام النازي الذي كان يطمع إلى الذهاب إلى أبعد من أوروبا. خلاصة القول يعتبر مفهوم (Lebensraum) مفهوما مرتبطا بشكل وثيق بالإيديولوجيات العنصرية والتوسعية للنظام النازي، وقد كانت له عواقب مدمرة على ملايين الأشخاص في جميع أنحاء أوربا.
من غريب الأمور أن أولئك الذين يدعون أنهم كانوا أكثر الأقليات تضررا من مفهوم المجال الحيوي (Lebensraum) هم الذين يطبقونه اليوم ضد شعب لم يكن له من ذنب سوى أنه ولد ونشأ، منذ آلاف السينين، على أرض، تقول روايات أكثرها ميثولوجي أسطوري، إن شعبا يهوديا سكن ذات يوم بها. ولم تقتصر هذه الجماعات، التي تقاطرت على هذه المنطقة من كل حدب وصوب، بالسكن بها فقط، بل تريد اليوم أن تطهرها من سكانها الأصليين. والتطهير يبدأ بالاستعمار أولا. تبني إسرائيل عددا من المستوطنات داخل المناطق التي تقرر دوليا أنها تُركِت للفلسطينيين ليتكدسوا بها في مناخ غير قابل للعيش الكريم، وتطلب من نفس الفلسطينيين عدم المناوشة أو النظر شزرا حتى لهؤلاء المستوطنين حتى ولو اعتدوا عليهم .فكلما صرخ أحد المستوطنين المسلحين إلا وهرعت القوات الإسرائيلية لتأديب حي أو مدينة بأكملها. وفي قطاع غزة حيث لم تستطع إسرائيل البقاء فيه، فإن جيشها ضرب حصارا أرضيا وجويا وبحريا على السكان وقطع صلتهم بالعالم وطلب منهم أن يحافظوا على هدوئهم وأن يصبروا على ما أوتوا من نعمة البقاء على قيد الحياة. لكن الفلسطينيين تنبهوا إلى الأمر باكرا، وعرفوا أن إسرائيل تريد تطبيق (Lebensraum) تماما كألمانيا النازية فتشبتوا بأرضهم رغم كل الصعوبات. وتنبهت إسرائيل أيضا لموقف الفلسطينيين ونفذ صبرها وهي الآن تطبق الخطط الأخرى لبرنامج الإبادة والاستبعاد (التهجير). يقول صحافي وول ستريت جورنال ”إن مدينة رفح تحوّلت، وبعد أسابيع من دخول القوات الإسرائيلية إليها، إلى أرض يباب، فهذه المدينة، التي لا تفصلها سوى تسعة أميال عن مصر، كانت منطقة تعجّ بالحياة والتجارة، ومعبراً للناس“. ووصف مراسل الصحيفة مشاهداته من رفح، أثناء رحلة رتّبها الجيش الإسرائيلي في عربة مكشوفة، وشاهدَ أحياءً بكاملها خالية من السكان، وبناية بعد بناية تحوّلت إلى كومة أنقاض.
ويضيف: «وفي كل بناية ما تزال واقفة آثار الرصاص، أو تعرّضت لدمار أجزاء منها بسبب القصف المدفعي والغارات الجوية .ودُمِّرَ طَرَفُ مِئْذنةِ مسجد، حيث تُرِكَ الهلال متدلياً من البرج. أما المباني الإدارية والطرقات التي شكلت معبر رفح، والذي كان نقطة الخروج الرئيسية قبل الحرب، فقد تحولت إلى خراب. وبدا برج مراقبة دمرت نافذته خالياً، وفوقة يافطة ضخمة نجت من القصف كتب عليها بالعربية: «أهلا بك في فلسطين». الفلسطينيون، إما أنهم تحت الأنقاض أو في العراء، باقون على أرضهم، والعالم الذي أقام محاكمات للنازية يتفرج ويقول إنه لم يحصل لديه الدليل بعد أن الأمر يتعلق بإبادة جماعية.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير