لا يعني “المؤمن” في القرآن، بالضرورة، المسلم. للجذر همزة ميم نون أهمية بالغة في المتن القرآني، بمختلف الصيغة التي يرد بها. لعل استعمال هذا الجذر أكثر من 879 في القرآن دليل على أننا إزاء مفهوم هيكلي في الفكر القرآني. تركز الاستعمالات القديمة للكلمات المشتقة من هذا الجذر على معاني الأمن والحماية. كما يمكن أن تفيد معنى الدلالة على مكان معين. مكة، مثلا، هي “حرم آمن” بمعنى المكان الذي يحميه الرب من هجمات القبائل المعادية، «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ للَّهِ يَكْفُرُونَ»، (سورة العنكبوت، الآية 67).
أما نعت “أمين” فيدل على الرسول، الذي تحظى رسالته المستوحاة من لله بثقة مطلقة. تتكرر الكلمة بهذا المعنى ست مرات في سورة الشعراء. ففكرة الثقة هنا جوهرية. كما أننا إزاء منطق تحالف بين متعاقدين. بموجبه يضمن لله أمن المسافرين في قوافل سبأ اليمنية “وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ”، (سورة سبأ الآية 18). كما يعرف لله، نفسه، بصفة “مؤمن”، في الآية 23 من سورة الحشر «هُوَ للَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ للَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ». ونعت المؤمن هنا يفيد صفة ذلك الطرف الذي يمكن أن يعول عليه. يبدو واضحا، إذن، أن فكرة الإيمان لا تعبر بالضرورة عن المعنى الذي يعطيه القرآن لهاته الكلمة، ولخلفياتها. هاته الأخيرة تحيل مباشرة على قواعد المجتمع القبلي والتي تلعب فيها التحالفات بين الرجال ومع الآلهة دورا أساسيا. وإن كان يتوجب حسن اختيار الحليف المناسب، سواء من بين الإنس أو الآلهة. حتى أن بعضهم اختار التحالف مع الجن، تصورا أن بإمكانهم التعويل عليهم «كونوا بهم مؤمنين»، وسيلقون في جهنم يوم الحساب. يظهر إذن، مرة أخرى، كيف ينخرط القرآن في السياق الاجتماعي وحتى المخيال السابق عليه. فيعلي من قيم التضامن واحترام الوعود. وينبه في نفس الوقت إلى ما يتهدد الذين ينحرفون عن الصراط المستقيم. بيد أن جل المتن القرآني الذي ترد فيه كلمة “مؤمن” يعود إلى الفترة المدنية. تصبح الكلمة هنا وصفا للذي ينخرط تماما في الطريق الإلهي، إذ يصدق أن الوحي حقيقة، «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ للَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ . قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ للَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ»، (الآية 91 من سورة البقرة)، وإذ يأتي الصالح من الأعمال، كما جاء في (الآية 82 من سورة البقرة وآيات أخرى عديدة). يجري هذا الوصف، كذلك، على الذي يلتزم كلية بأعمال ملموسة، خاصة حين يدعو محمد إلى القتال في المدينة، “نَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ للَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ” (الآية 15 من سورة الحجرات). بقي هذا المعنى القرآني مستمرا بعد فترة النبوة، ما يدل على استمرار النموذج القبلي في المبادرة بالقيام بعمل جماعي. فخلفاء محمد الأوائل، خاصة أولئك الذين أطلقوا الحملات، وسط شبه الجزيرة العربية ثم على حدودها، حملوا لقب “أمير المؤمنين”. أي القائد الذي يعطي الأوامر، ويحظى بثقة أولئك الذين يلتزمون بالانخراط معه كلية في الأعمال التي يبادر إليها. بقي هذا الاصطلاح يستعمل على مدى أكثر من قرن ونصف. ظل كذلك طيلة الفترة التي كانت فيها القبائل المتحدرة من شبه الجزيرة العربية تلعب دورا سياسيا في سلطة الخلافة. على الأقل إلى حدود سقوط الخلافة الأموية سنة 750 ميلادية. لم تصبح الكلمة تحمل معنى الإيمان إلا بعد سقوط هذا النموذج الاجتماعي.
رشيد بن الزين