حينما أعلنت الخارجية المغربية شهر مارس الماضي تعليق كل اتصال أو تعاون مع السفارة الألمانية في الرباط ومع كل المؤسسات الألمانية التابعة لها، ثم أتبعت ذلك شهر ماي الماضي باستدعاء الرباط لسفيرتها في برلين من أجل التشاور، معللة هذه الخطوات بالموقف السلبي لبلاد ميركل من قضية الصحراء المغربية، وبعدم استدعاء المغرب لحضور مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية، وبسبب أنشطة المدعو حجيب على الأراضي الألمانية، اعتبر كثير من المتابعين الخطوة المغربية تسرعا وعدم مراعاة للعواقب، كيف للمغرب أن يعامل دولة كبرى بكل ثقلها التاريخي والسياسي والعلمي كألمانيا بسياسة الند للند، وهل يدرك تداعيات هذه الخطوة، وما يمكن أن تجر عليه من متاعب؟
لكن رد الفعل الألماني كان مفاجئا لكل أولئك الذين توجسوا من قرارات الرباط، اكتفت برلين ابتداء بالحديث عن سوء فهم من المغرب لمواقفها، واندهاشها الشديد مما حصل، وسط تأكيد المغرب على ضرورة الوضوح والمعاملة بالمثل، لكن بعد أشهر قليلة فقط، عبرت الحكومة الفيدرالية الألمانية الجديدة عن استعدادها للجلوس مع المغرب وتجاوز كل تداعيات الأزمة، واعتبار المغرب شريكا محوريا، ملتمسة عودة العلاقات الدبلوماسية وبناء شراكات واسعة، وهو ما لقي ترحيبا مغربيا أنهى بشكل مبدئي الأزمة بين البلدين.
المفاجأة الكبرى كانت هي ما جرى بين المغرب وإسبانيا، بعد توتر أبدت فيه الجارة الشمالية تعنتا واستفزازا، بلغ حد استقبال زعيم الانفصاليين على أراضيها بأوراق مزورة، وهو ما واجهه المغرب بعدد من الإجراءات الحازمة، فاستدعى سفيرته في مدريد، و منع إسبانيا من الاستفادة من عائدات دخول الجالية إلى المغرب عبر موانئها محولا الوجهة نحو البرتغال وفرنسا، واتهام وزارة الصحة المغربية لإسبانيا بالتهاون في إجراءات مراقبة تطور وباء كورونا، في حين تتهم إسبانيا المغرب بتهاونه في حماية الحدود عمدا مما أدى لتدفق آلاف المهاجرين الأفارقة نحو سبتة .وبعد كل هذه التوترات والتشنج، والمعاملة الصارمة والحازمة من قبل المغرب، أعلنت إسبانيا قبل أيام عن دعمها لخطة الحكم الذاتي المقترح من قبل المغرب لحل قضية الصحراء، واعتبارها، بتعبير وزير الخارجية الإسباني خوسي مانويل الباريس، «الأساس الأكثر جدية وواقعية وصدقية لحل النزاع» .وهو موقف تاريخي باعتراف صحيفة “إلموندو“ الإسبانية نفسها، فيما وصفت “Le Point” الفرنسية هذا التطور بالتغيير الجذري والمذهل، وهو مذهل حقا حين تتبناه حكومة ائتلافية من بين مشكليها حزب بوديموس المناهض للمواقف المغربية حول سيادته على صحرائه .ماذا تغير بالمغرب وماذا حصل بأوربا، حتى أضحت هذه الدول الكبرى في المنطقة تطلب ود المغرب، وتغامر بمواقفها التاريخية واستقرار حكوماتها في مقابل عودة العلاقات مع الجار الجنوبي إلى سكتها الطبيعية؟ هل تحول المغرب إلى قوة إقليمية؟ أم أن أوربا هي التي تحولت إلى رجل مريض؟
ما أراه شخصيا أن كل هذه التحولات هي نتيجة للأمرين معا، لا يمكن إغفال ما يعرفه المغرب من تحولات على مستوى تدبير العلاقات الخارجية، وتسجيله لنقاط متتالية، خصوصا بعد الاتفاق الثلاثي، وحصوله على الدعم الأمريكي والإسرائيلي، وما يعرفه من نهضة اقتصادية، وما يمكن أن يقدمه لشركائه على مستوى الاستثمار والتبادل التجاري واتفاقيات الصيد البحري، فضلا عن اكتشافه لحقول الغاز الطبيعي، وتمتعه باستقرار سياسي لا تعرفه الدول المجاورة، وإشادة العالم كله بسياساته الأمنية واستنجاده بخدماته الاستخبارية، فضلا عن موقعه اليوم في القارة الإفريقية، وغزوه لأسواق إفريقيا، وريادته الدينية والروحية، كل هذا من الطبيعي أن يجعل من المغرب اليوم لاعبا كبيرا بالمنطقة يحسب له ألف حساب، في إطار التوازنات السياسية الإقليمية والدولية.
لكن في الوقت ذاته، لا يمكن إغفال النظر عما تعيشه أوربا في الفترة الراهنة من ضعف واهتزاز، كثيرون يتنبؤون بفشل مشروع الاتحاد، وهو ما جعل بريطانيا تنجو بجلدها قبل أن تتحمل تبعات هذا الفشل، وتداعيات كورونا، والحرب اليوم بين أوكرانيا حليفة الغرب، وروسيا التي تزود القارة بأغلب إمداداتها من الغاز .بوتين يعلم أن أوربا لن تستطيع مواجهته، وأنها ستتابع غزواته عبر شاشات التلفزيون، وأن الولايات المتحدة الأمريكية ستتخلى عنها، بل قد يكون لها يد في كل ما يجري، لتأسيس خريطة جديدة للعالم، تتبوأ فيه أمريكا وروسيا والصين والهند مراكز القيادة، فيما لا بديل لدول أوربا سوى البحث عن مصادر أخرى للطاقة والغذاء، ومناطق مستقرة وآمنة تغنيها عن مشاكل أخرى، ولن تجد أفضل من المغرب القوي حليفا استراتيجيا يمكن الاعتماد عليه لجبر أضرارها.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي