ربما يعتبر البعض أن المعارك الثقافية لا ضرورة لها وأنها، كما كان يقول بعض الماركسيين الذين لم يقرأوا ماركس جيدا، ليست إلا البنية الفوقية التي لا تؤسس بالضرورة للانتقال أو التحول الجذري للمجتمعات، وأنها خاضعة لضرورات الحياة المادية (الاقتصاد بالأساس) .بل منهم من يبالغ ويذهب إلى أن الثقافة ليست إلا انعكاسا لما يحدث في الحياة اليومية للناس من نضال من أجل تغيير وضعهم الاقتصادي. هذه النظرة، التي تحصر الإنسان في مفهوم حيواني يأكل ويتناسل ولا يهتم بما هو ثقافي وروحي، دفعت أجيالا من الشباب إلى التصحر الروحي على المستوى الفني والعاطفي…، ودفعت بآخرين إلى السقوط أمام عروض عقدية تدعي الخلاص الديني كحل لأزمة جفاف الروح.
كنت أظن أن هذا الأمر انتهى، وأن عددا من أولئك الذين دافعوا عن هذه الأفكار وأصبحوا اليوم شيوخا قد تبدلوا بفعل الزمان وبفعل الحاجة إلى الفن والسمو الروحي .لكنني أكتشف، يوما بعد يوم، أن الأمر غير ذلك، وأن ترسبات تلك المراحل التاريخية من النضال المغربي ما زالت متكلسة في الأذهان. لاحظت ذلك عند اطلاعي على عدد من الآراء التي واكبت جدل السلطات الثقافية المغربية ونظيرتها الجزائرية حول الملكية الفكرية والفنية والتاريخية للزليج المغربي. لا يهمني المدافعون وخصوصا أولئك الذين يدفعون بعصبيتهم العرقية إلى حد الاعتقاد أن للجيو–سياسي علاقة بالأعراق. يهمني أولئك الذين ظنوا أن الأمر تافه، وأن نقاشا مثل هذا لا يستحق الاهتمام أو أنه يدخل في نطاق التمويه عن الحالة السياسية والاقتصادية التي يعيشها المجتمع المغربي.
لا أنفي إمكانية استغلال هذا الأمر داخل استراتيجية التمويه، لكن حتى ولو صح هذا، هل يعتبر مدعاة للتبرم عن الخوض في النقاش بصدده ومعرفة أهمية السطو على تاريخ ثقافي بنته، على مر العصور، مجموعة بشرية معينة فوق رقعة أرضية مخصوصة؟ هل يعرفون تفاصيل الحرب الدائرة اليوم بين الفلسطينيين والصهاينة من يهود إسرائيل حول التراث الثقافي لتلك الأرض، أي فلسطين؟ هل يعرفون أن الحرب تمتد من الأركيولوجيا إلى المخطوطات إلى الفنون التشكيلية إلى الموسيقى إلى اللباس إلى الرقص إلى الطبخ …حرب ضروس تدور رحاها حول الهوية الثقافية لشعب يعرف الصهاينة أنهم إن سلبوا منه ثقافته فسوف يسهل عليهم دفع الأجيال اللاحقة إلى نسيان الأرض.
هذا ما يحدث مع الجزائر “الشقيقة“. لقد حذر الراحل الهواري بومدين الصحافيين والمثقفين الجزائريين من الخوض في الحرب التاريخية مع المغاربة قائلا لهم: «لن نربح هذه الحرب». كان يعرف أن فرنسا منحت الجزائر أجزاء كبيرة من الأرض المغربية لكنها لم تستطع منحها وجدان الناس .ووجدان الناس موجود في الموسيقى والرقص والرقش والطبخ… أي كل ما أنتجه الخيال المغربي على امتداد السنين وطوال قرون من الاستقرار الذي سمحت به تفاعلات الشعوب والحروب. لذا عندما تتجول في الجزائر ويكون لديك حس فني، فإنك تكتشف أن الطابع المعماري والعادات الحضرية والذوق …قد تمت صياغتها وتنميطها خلال الاحتلال العثماني وبعده الفرنسي لهذه البلاد .وأن البنيات التقليدية، كما قال ماركس في نصه الشهير عن الجزائر، لم تتفكك داخل صيرورة تاريخية سليمة، وإنما هُدِّمت من طرف المحتلين. وبفعل كل هذا، فإن تراث الجزائر المعماري في المناطق التي احتلتها تركيا بقي عثمانيا. وأن الحاضرة الوحيدة التي قاومت من أجل المحافظة على تراثها الأصيل هي تلمسان نظرا للعلاقة التي لم تنفصم بينها وبين فاس .هذا فيما يتعلق بالفنون الحضرية .أما فيما يتعلق بالفنون القروية والجبلية، فإن الأمازيغ لم يسامحوا في تراثهم سواء إبان الاحتلال العثماني أو الفرنسي، بل حافظوا عليه إلى حين استقلال الجزائر، وأن الدولة الحديثة الاشتراكية على الطريقة العربية هي التي أجهزت عليه.
الدفاع عن التراث ليس شوفينية وإنما هو دفاع عن الوجود. فكما أننا ندافع عن الأرض وساكنة الأرض، فكذلك ندافع عما أنتجه سكان هذه الأرض. لا يهمنا من بادر بالدفاع عن الموروث، بل يهمنا الموروث. يعجبني دائما الاستشهاد بما قام به ماو تسي تونغ عندما كان يحارب سلطات بكين خلال مسيرته العظمى، وعندما لاحظ أن اليابانيين، خلال الحرب العالمية الثانية، بادروا إلى احتلال الجزء الشمالي من الصين، نظم في مشهد غريب اختطاف رئيس الجمهورية الصينية الوطنية (أي عدوه) وجلبه إلى الأدغال حيث كان يقيم مع ثواره، واتفق معه على هدنة تسمح لهم بمحاربة العدو الأول، الإمبريالية اليابانية، على أن يعودا إلى حربهم الثنائية بعد هزم العدو. وكذلك كان .كان يعرف أنه إذا حرر الناس لا بد له من وطن يُسْكِنُهُمْ فيه، والوطن ليس الأرض فقط، بل الثقافة والحضارة .فإذا كان الإنسان يحن إلى وطنه ويعود إليه، فإنه أينما كان يقيم في لغته وفي موروثه الثقافي .ولنا العبرة، كل العبرة في الشعب الفلسطيني. فحرب الفلسطينيين حول القدس وقبة الصخرة ليست قطعا دينية، بل إنها بالأصل ثقافية حضارية.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير