نشر هابرماس، راينر فورست، وكلاوس غونتر، ونيكول ديتلهوف، بيانا حول الحرب غير المتكافئة التي تجري في فلسطين بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس. لا أدري ما الذي دفع بمؤلف مصنفات حول التواصل إلى الخوض في موضوع يعرف أصلا أنه من أهم القضايا التي يضطلع فيها التواصل بدور محوري. وحتى إذا كان من الضروري له ولزملائه أن يتميزوا ببيان عن هذه الحرب، ألم يكن حريا بهم أن يقتضوا بنصيحة هيغل وينتظروا المساء لكي يتفلسفوا. لقد تفضل الزميل محمد الأشهب، أستاذ الفلسفة بجامعة ابن زهر بأكادير والخبير في اللغة والفكر والفلسفة الألمانية، بترجمة النص والتعليق عليه مساهمة منه فيما قد يكون قد غاب عن الترجمة. والحقيقة أن الترجمة كانت واضحة خصوصا في إبراز موقف الأشخاص المشار إليهم. محور البيان هو هذه الجملة: «هناك بعض المبادئ التي لا يجب أن تكون محل خلاف»، والتي سعى من خلالها كُتَّاب هذا الموقف إلى انتزاع اعتراف من القارئ على أن كل ما سوف يقال لاحقا يجب أن يؤخذ على أساس أنه الحقيقة. وهذا ما جاء بعد هذه الجملة: «إن المجزرة التي ارتكبتها حماس والمصحوبة بنيتها المعلنة لإبادة الحياة اليهودية بشكل عام، كانت سبباً في دفع إسرائيل إلى الانتقام بهجوم مضاد». لا يهم هنا التوقف عند ردة فعل إسرائيل، بل الجزم بأن حماس ارتكبت مجزرة وأنها كانت تنوي من خلال تلك المجزرة إبادة الحياة اليهودية بشكل عام. إبادة اليهودية أين؟ في المستوطنات، أم في إسرائيل أم في العالم؟ جملة كهذه صادرة عن شخص يقول إنه يفكك الخطابات التواصلية تجعلنا نتوقف مليا. ألا يعرف أن الدعاية الصهيونية وعلى مدار الساعات والأيام والليالي وهي تلوك نفس الخطاب الذي كان مهيأ حتى قبل عملية حماس في المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة؟ ألا يعرف أن هذه طريقة وفلسفة إدوار بارنايس (Edward Bernays) في كتابه (بروباغاندا) والذي استعمل للدعاية لحرب 1918-1914؟
لكن ذنب البيان لا يقتصر فقط على هذه الجملة، بل سوف يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يؤكد أنه «وعلى الرغم من كل القلق على مصير السكان الفلسطينيين، فإن معايير الحكم تزيغ عن الطريق تماما عندما تعزى نوايا الإبادة الجماعية إلى التصرفات الإسرائيلية». يعني أن الطائرات الإسرائيلية التي تقنبل العمارات بعدد كبير من القنابل تزن أكثر من نصف طن لم تقصد تماما الإبادة الجماعية؟ وأن تقارير خبراء الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية التي تقول بالإبادة الجماعية، والدعاوى إلى محكمة العدل الدولية حتى قبل الاعتداء الإسرائيلي على غزة لا أساس لها بالنسبة لخبير التواصل؟
ثم يتابع ويؤكد أنه وفي كل الأحوال ليس هناك ما يبرر العداء لليهود. وشيئا فشيئا يتضح أن البيان كتب للدفاع عن إسرائيل وليس للدفاع عن الحقيقة، وله في ذلك حجة منطقية لأنه يعتبر أن مقدماته التي افتتح بها كُتَّاب البيان نصهم كانت تفترض أن يتفق معهم المتلقي كشرط لمتابعة القراءة. «فالروح الديمقراطية لجمهورية ألمانيا الاتحادية، والتي تقوم على أساس الاعتراف باحترام الكرامة الإنسانية، ترتبط بثقافة سياسية تعتبر الحياة اليهودية وحق إسرائيل في الوجود عنصرين أساسيين يستحقان حماية خاصة مع استحضار الجرائم الجماعية التي ارتكبت سابقا في الحقبة النازية».
وأخيرا تظهر أم الحجج وهي مأساة الشعب اليهودي الأوربي التي لم يكن لشعب فلسطين أي دور فيها. هذا الشعب الذي لا يظهر اسمه في أي سطر من سطور البيان. إنها حجة الجرائم الجماعية التي ارتكبت سابقا في الحقبة النازية. هكذا نرى أن فيلسوف الإقناع يحاول أن يقنعنا بتموقعه إلى جانب المدفع والقنابل التي تدك المنازل والمدارس والمستشفيات.
رب قائل يقول: ما هذه المفارقة (!). هذه ليست مفارقة، هذه حالة نفسية ناتجة عن تغلغل الفكر الديني المسيحي في نفس الفيلسوف الحداثي. لقد حولت الصهيونية اليهودي الأوربي بعد مذابح النازية إلى مسيح ضحية مستغلة بذلك تربة الشعور بالذنب ومشكلة الخطيئة الأصلية عند جمهور المسيحيين الغربيين. فكم يلزم من جثث فلسطينية لكي تتخذ الضحية وجها آخر؟ بانخراطه في هذا الاتجاه الفكري المعروف في أوربا والذي لا يتوقف اللوبي الصهيوني عن تطعيمه، يكون هاربماس وأصدقاءه قد أجهزوا على المنطق الفلسفي، بل وأصبحوا محتالين كما يوضح ذلك سقراط في هذه المحاورة:
في الكتاب الأول من ”الجمهورية” لأفلاطون، يجري سقراط وبوليمارخوس حوارًا حول العدالة:
- لكن ما هو الأصلح لحراسة جيش؟ أليس هو الذي يعرف كيف يسرق خطط ومشاريع العدو؟
- بلا شك.
- إذًا الشخص نفسه الذي يصلح لحراسة شيء، هو أيضًا مناسب لسرقته.
- كما يبدو.
- إذا كان العادل مناسبًا لحراسة المال، فهو مناسب أيضًا لسرقته؟
- على الأقل، هذه نتيجة ما توصلنا إليه للتو.
- بهذا الحساب، إذن الرجل العادل هو في الواقع محتال.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير