لا ترتبط علاقتنا بإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وكل ما نعرفه عنها بالحاضر فقط، بل هي ضاربة في القدم. غير أن ما وصلنا من الزمن الغابر ضئيل جدا. فعلى مدى ما يزيد عن عشرة قرون قليلا، ظلت طبيعة تلك العلاقات غير مدرجة في التاريخ ولا في ذاكرتنا الجماعية. والحال أن إفريقيا لها تاريخها الخاص، وقد كانت موجودة قبلنا، أي بدوننا. فقد قدم السينغالي ليوبولد سيدار سنغور، أحد أهم المفكرين الأفارقة في القرن العشرين، ما يكفي من الحجج الأثرية والأنثروبولوجية القوية لإثبات أن القارة السمراء هي مهد البشرية وأول أرض سار فيها إنسان على قدميه. ثم توالت دراسات واكتشافات تؤكد ما انتهى إليه سيدار سنغور الشاعر والرئيس السينغالي السابق…
لسنا في حاجة، هنا، لاستطلاع رأي لتقييم درجة فضولنا حول تاريخنا المشترك مع إفريقيا.
بل يمكن القول، حتى من الناحية التجريبية، إن القليلين من بين النخبة يعرفون أن المغرب كان بلدا في الساحل، وأنه كان فاعلا بعمق في الأحداث التاريخية للمنطقة، وأن جميع السلالات المتعاقبة التي سادت في كل من مراكش والرباط وفاس ومكناس جاءت من هذه الأعماق الإفريقية.
وبالنظر فقط إلى الصحراء، في اتساعها الجغرافي، يمكن أن ندرك أنها ليست الاستمرارية الطبيعية لأرض ما، بل هي جزء لا يتجزأ من التاريخ: تاريخنا.
بل إن حدود الساحل نفسها، بقدر ما تستطيع أن تراه العين، لم تكن أبدا حدودا في تاريخنا. ولكنها مجرد ممر من نوع الطريق السريع للقوافل، التجارية والثقافية والسياسية، الذي يربط أدغال غرب إفريقيا مع شعاب المغرب الأقصى، في اتجاه بوابات أوربا والأندلس.
في هذا الفضاء الواسع الذي كان مركزا للمبادلات التجارية، خاصة الذهب والملح والرقيق، كان المغرب محورا لا غنى عنه، قبل أن يدير ظهره في اتجاه الشمال، مضطرا، بعد وقوعه تحت الاحتلالين الفرنسي والإسباني. وكان يجب أن ننتظر انفجار قضية الصحراء حتى يتجدد الاهتمام بتاريخنا الإفريقي.
هذا الواقع، الذي استغرق ردحا من الزمن دام أكثر من أربعين عاما وتوزع بين المواجهات العسكرية والدبلوماسية، أجبرنا على إعادة النظر في سياستنا الإفريقية والعمل على إدراك ما فات من وقت لإنعاشها.
يمكن أن نستحضر، هنا، ذلك الزمن الجميل للمؤتمر التأسيسي لمنظمة الوحدة الإفريقية الذي انعقد عندنا في مدينة الدار البيضاء، عام 1961، والذي كان الملك محمد الخامس قد دعا إليه. كانت القارة السمراء، حينها، تعيش أيامها المجيدة من أجل الاستقلال، لكنها في الوقت ذاته كانت مهددة بانفجار قنبلة موقوتة، في أية لحظة، بسبب مشكلات الحدود التي خلفها الاستعمار. والحال أن مشكلات الحدود تلك كانت السبب الرئيسي في اندلاع جميع الحروب الفتاكة والمتكررة، التي شهدتها إفريقيا وأدت إلى هلاك الملايين من الناس. منذ أن غادرنا منظمة الوحدة الإفريقية في عام 1984، بالنسبة لنا، تلقت خريطة القارة قدرا كبيرا من التبسيط لتجاوز الاختلافات، كما تلقت علاقاتنا مع باقي الدول قدرا آخر توزع بين الاختلاف والتأييد. فهنا، يوجد أولئك الذين يعترفون بمغربية الصحراء، وهناك أولئك الذين ينكرونها، مع أفضلية لأتباع أموال البترو-دولار الجزائرية.
وطيلة عدة سنوات، بدت دبلوماسيتنا خجولة في خطها الدفاعي، أكثر من أن تكون مبادرة وهجومية. والنتيجة أننا غادرنا إفريقيا تقريبا، غير أن إفريقيا لم تغادرنا أبدا.
عدنا، في وقت ما، عبر علاقات ثنائية مع بعض الدول “الصديقة” التي لم تتعرض للتضليل داخل منظمة الوحدة الإفريقية، التي انتهت بشكل تدريجي، ليحل محلها الاتحاد الإفريقي الذي أرسى دعائمه الزعيم الليبي السابق معمر القذافي رفقة آخرين، ظلوا يعاكسون المغرب في قضيته الوطنية الأولى.
لكن بدت، في النهاية، استحالة سلب الهوية الإفريقية من المغرب، ولا عمقه في منطقة الساحل.
كما ثبت أن الصحراء التي نريدها جسرا نحو المغرب الكبير، هي بالفعل شرفة على الفضاء الإفريقي.
يوسف شميرو
مدير النشر