حملت حكومة التناوب الأولى، التي عينها الملك الحسن الثاني في عام 1998، شعار تخليق الحياة العامة، كي تستعيد الحياة السياسة الغاية منها، وهي خدمة الصالح العام، والائتمار ببرامج، وتكون أدوات الاختيار سليمة، من أحزاب، وانتخابات، من غير استعمال “المال الحرام“، كما كان يسمى، وحياة الإدارة، وتشبيب التنظيمات الحزبية.
انطبعت الحياة السياسة بكثير مما حُمل حينها، وأخذت الإدارة بقواعد تضمن حيادها، وأخذت الانتخابات السياسية تجري في مواعدها، وتقوم مؤتمرات الأحزاب…
كان ذلك منتصف الطريق، لأن الحياة السياسة لم تسلم من الاصطباغ بألوان حزبية قبيل الانتخابات أو بعدها للاستوزار، ولم تسلم من الإنزال بالمظلات لشخصيات ليس لها والسياسة إلا الخير والإحسان.
بدأت الحياة السياسية تفقد رونقها، وجفا المواطنون صناديق الانتخابات … تظل هذه العيوب في حدود التوتر الأدنى، لكن أسوأها، هو تغلغل رأسمال المخدرات في بنيات حزبية… كان أسوأ ما يمكن توقعه، مما يشين للحياة السياسية، وأدواتها من أحزاب، وغايتها الصالح العام. أن يصاب المرء بنزلة برد شيء عادي وطبيعي، ولكن أن يصاب بسرطان، شيء آخر .والذي حدث للحياة السياسية هو أكثر من نزلة برد، أو وعكة عابرة، إن لم نقل سرطانا.
أصبحت الغاية هي المصلحة الشخصية، في تداخل مريع بين الثروة والسياسة، أو ما يسمى في أدبيات علم السياسة بعلم الأثرياء (البلوتوكراسية)، والأحزاب مطية. انظروا إلى أمناء عامين، طلّقوا الشأن العام (على اعتبار أنهم اقترنوا به)، وعادوا إلى قواعدهم المالية والتجارية آمنين غانمين، بعد أن انتهى عقد “الأمانة العامة“.
الطبيعة تأبي الفراغ، والسياسة تأباه كذلك. ولا يمكن لبلد، ظل دوما مشرئبا إلى أوربا، وما ترمز له من تحديث أن يقبل بالإجهاز على السياسة. يتردد كثيرا من أن السياسة ماتت، والحقيقة آلم من ذلك، وهي تعرضت لتشويه ومسخ. أحزاب ليست أحزابا، ولكن تكتلات مصالح، وماكينات انتخابية، وقيادات ليست قيادات، أبواق في أحسن الأحوال، وخطابات ليست خطابات … وهل بهذا نستطيع أن نشحذ طموحا جماعيا؟
ما البديل؟ انتظار انهيار المنظومة السياسية، إلى أن يغمرها طوفان الشارع؟ انبثاق خطاب شعبوي، ومهدي منتظر يتوعد كل شيء، ويعد بكل شيء؟
ليس هذا الحديث منصرفا للأحزاب السياسية وحدها، و“لمناضليها” (وينبغي أن نحدد ها هنا مفهوم النضال، والحقيقة أن ما يسمى بمناضلين هم منتسبون لحزب)، ولكن لبنية الدولة كذلك، وللمثقفين، والجامعيين… وبتعبير آخر لكل القوي الحية لهذا البلد…
لا نشك في خبرة التكنقراط، ولكنهم يدركون أكثر من غيرهم أن تدبير الشأن العام، ليس مجرد تقنية، والحال أن كثيرا من المقاربات التكنقراطية بما فيها التعليم باءت بالفشل. لا سياسة من غير وجدان، أو عواطف جماعية كما يسميها كارل شميث.
نحتاج سياسة غير مشوهة، وغير ممسوخة، بسياسيين حقيقيين، وبأحزاب تعبر عن حساسيات، ويكتنفها حوار، وتصورات… نعم الكلمات تؤلم، ولكن الواقع الذي تحيل عليه أكثر إيلاما…
كان المرحوم الحسن الثاني يقول إن الشعوب لا تموت من الفقر، ولكنها تموت بالذل. يتهددنا خطر الميوعة والابتذال. ولا يمكن لحفدة المرابطين والموحدين، أن يقبلوا بذلك.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير