تابعت عن كثب كل تطورات ملف مغني الراب الشاب طه فحصي الملقب بـ“طوطو“، وتداعيات ما جرى بـ“البوليفار“، وما ترتب على ذلك من ردود أفعال، ولا أريد الخوض في تفاصيل ما جرى، خصوصا وأن القضية ما تزال اليوم بيد القضاء، وله كلمة الفصل في نزاع بين أطراف مدنية.
لكن ما أثارني حقا هو مطالبة البعض، على وسائل التواصل الاجتماعي، بالتدخل العاجل لوقف ما سموه بـ“الرداءة“ و“التفاهة“ .جميل جدا أن نطالب برفع جودة المنتوج الفني، وأن نربي الأجيال الصاعدة على رقي الذوق وحسن الاختيار السمعي والبصري، لكن ما يستوقفني في مثل هذه الدعوة أمران مهمان، أولهما هو ما يتضمنه مثل هذا النداء من الإيمان بضرورة ممارسة الرقابة على أي نوع من الإنتاج، وتناقض ذلك مع كل النضال الذي خاضته القوى الحية بالبلاد لضمان حرية التعبير، وتوسيع هوامشها إلى أقصى حد، فيما ليس له مساس بالأفراد وأعراضهم .أعتبر الدعوة لممارسة أي رقابة أو تدخل سلطوي تجاه عمل فني بغض النظر عما فيه نكوصا وانتكاسة للوراء، قد تكون أخطر من كلمة نابية أو حتى ممارسة سلوك غير مقبول.
ثانيهما هو ما أراه من قصور كثير من هؤلاء المنددين في فهم التحولات التي يعرفها المجتمع، خصوصا اتجاهات الشباب وتفضيلاتهم وأذواقهم وميولاتهم الفنية، وما جرى بعد سنة 2000 من ظهور تعبيرات شبابية اعتبرت يومها تمردا على السلطة والمجتمع، وهو ما نراه اليوم متجددا مع هذه الردود التي تتخذ في غالبها طابعا “أخلاقيا“، بعيدا حتى عن النقاش الفني والموسيقي.
لا يدركون أن طه فحصي أو طوطو يمتلك اليوم قاعدة شعبية كبيرة من الشباب، قد تجد منهم حتى كثيرا من أبناء هؤلاء المنددين وأقاربهم، والدليل ما نراه من الآلاف التي تحج لمتابعة سهراته في مختلف أنحاء المغرب، وما تحققه أغانيه من أرقام مليونية على “يوتوب“، وما بلغه من شهرة وصلت خارج المغرب. لا يمكن التغاضي عن كل هذه المعطيات، أو وصف كل هؤلاء المتابعين له والمتيمين بما يقدمه بالطيش وقلة الأخلاق.
لا يدركون أيضا أن فن الراب يختلف في أسسه وقواعده وخطابه ومفرداته عن باقي الفنون الكلاسيكية المعروفة، وأن كينونته تتمثل في خروجه عن القواعد المعروفة، بل في خروجه عن “السيستم“ الذي ألفه المجتمع ووضع له القواعد والمعايير، سواء في لغته أو رسائله أو طريقة عرضه أو أساليب استقطابه، وأنه إن لم يكن كذلك، فليس بـ“راب“، فليطالبوا إذن بمنع الراب مطلقا، وإعدامه ومحوه من الخارطة الفنية.
ما أراه شخصيا هو أنه بدلا من محاولة إقصاء كل هؤلاء الشباب المهووسين بهذا النوع من التعبيرات الثقافية والفنية المختلفة، هو أن نسائل أنفسنا، لم انهزمت التعبيرات الفنية التقليدية، والأدوات الثقافية عموما، في معركتها مع هذه المستجدات في استقطاب هؤلاء الشباب؟ لم لا تحقق نفس هذه الأرقام والمتابعات؟ لم أصبحت أقل جاذبية للأجيال الجديدة؟، أي مجهود بذل في ترقية الأذواق وتوجيهها وتمكنها من اختراق وجدان هؤلاء الشباب، قبل المسائلات الأخلاقوية والجلد والمطالبة بممارسة الإعدام؟…
من حق كل هؤلاء الخوف على أبنائهم، من حقهم المطالبة بعدم الترويج أو دعوة الشباب لاستهلاك ما له ضرر على عقولهم وأجسادهم، خصوصا حين يتعلق الأمر بنشاط مدعوم بمال عمومي، من حقهم دعوة الشباب لإمتاع آذانهم بأم كلثوم وفريد الأطرش وفيروز ومارسيل خليفة، والاستماع لموسيقى شوبان وموزارت وبيتهوفن، لكن ليس من حقهم إعدام أي نوع موسيقي له أدوات وقواعد مختلفة، خصوصا حين نجد المدرسة وسياساتها قد تخلت عن دورها في تنمية الأذواق والتربية على الفن، والتوعية بدوره في الحياة، وهذه برأيي هي العريضة التي يجب أن نوقع عليها جميعا.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي