تعيش الجمهورية الفرنسية ردة خطيرًة في مجال حرية التعبير الفنية والسياسية. تراجعٌ يستدعي من الجميع وقفة تفكير حول ما يحدث في بلد فولتير، الذي يُحكى أنه قال: «لستُ موافقًا على ما تقوله، ولكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في قوله». على عكس فولتير، تُلاحق السلطات الفرنسية، الإعلامية والبوليسية والاقتصادية، الفنانين الأحرار. استمعت الشرطة الفرنسية إلى الفكاهي كيوم موريس
(Guillaume Meurice)من إذاعة “فرانس إنتر“ بتهمة “التحريض على العنف والكراهية المعادية للسامية“ و“الإهانات العلنية ذات الطابع المعادي للسامية“، عندما نعت بنيامين نتنياهو بـ“النازي المختون“ على أمواج الإذاعة. وظن الجميع أن الأمر انتهى هنا، لكن الضحية الموالية كانت الكوميدية الموهوبة بلانش كاردان (Blanche Gradin)، بسبب سكيتش قدمته بمعية الكوميدي المعروف أيميريك لومبري (Aymeric Lompret)، تعرضت فيه للقمع الفكري عندما يتحدث المبدعون عن مشاكل تهم الإنسانية، وخصوصًا عن أفظع كارثة إنسانية، تلك التي تحدث تحت أنظار العالم في غزة.
بلانش كاردان، ومباشرة بعد عرضها، تلقت تهديدات وإهانات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل وتلقت اتصالات من إسرائيل تهددها بملاحقتها إلى منزلها. كما تعرضت للاعتداء اللفظي في الشارع. رغم ذلك، لم ترغب في الانزلاق إلى موقف الضحية، معتبرةً أن المخاطر التي واجهتها ضئيلة مقارنةً بما يعيشه الفلسطينيون والإسرائيليون المناهضون للصهيونية.
ما فاجأها لم يكن العنف بحد ذاته، بل الصمت التام الذي قوبلت به من الوسط الفني. كانت تتوقع دعمًا من زملائها، لكنها لم تَلْقَ سوى تأييد محدود من بعض الكوميديين والممثلين .وبالرغم من أن شريكها في العرض، أيمريك لومبري، كان أكثر شهرة، إلا أنها رأت أن الهجوم عليها كان أكثر حدة، ربما بسبب كونها امرأة. فقد لاحظت كيف أن التهديدات ذات الطابع الجنسي كانت جزءًا من الهجمات التي تعرضت لها، وهو أمر لا يُقال عادةً للرجال.
لم تتردد في تأكيد موقفها، مشددةً على أن السكيتش لم يكن يتضمن أي تجاوزات من وجهة نظر مناضلي العدالة والكرامة الإنسانية. كانت ترى نفسها في صف الشخصيات الفكرية التي ترفض الصهيونية، مثل أنجيلا ديفيس، وروني براومان، وجوديث باتلر. بالنسبة لها، فإن ما يحدث في غزة ليس سوى إبادة جماعية استعمارية، وأن هناك محاولات لمصادرة الحقيقة عبر فرض رقابة فكرية ولغوية.
لم تقتصر المواجهة على الرأي العام فقط، بل امتدت إلى الوسط الإعلامي، حيث انتقدت بشدة القنوات التي تمارس ازدواجية المعايير، مشيرةً إلى كيف أن الكوميديين يمكن أن يُطردوا بسبب نكتة حول نتنياهو، بينما تُمرَّر النكات حول المسلمين دون اعتراض. كما لاحظت أن بعض زملائها في الكوميديا، ممن تعرضوا للرقابة، لم يجدوا دعمًا من الآخرين، وهو ما أثار استياءها.
انعكست تداعيات هذا الجدل على مسيرتها المهنية، إذ لاحظت تراجعًا حادًا في العروض السينمائية المقدمة لها. ومع ذلك، لم ترغب في تبني موقف الضحية، مشيرةً إلى أن التأثير الاقتصادي كان حقيقيًا، لكنه لا يضاهي مخاوفها بشأن مستقبل المجتمع بشكل عام. كانت ترى أن ما حدث منذ السابع من أكتوبر يعكس انهيارًا أخلاقيًا، حيث أُنتج نوعٌ من الرقابة الذاتية العاطفية التي أفقدت الناس قدرتهم على التعاطف مع الشعوب المظلومة. رغم كونها كوميدية، لم تعد تجد في نفسها القدرة على الضحك أو تقديم النكتة. منذ ذلك الحدث، شعرت بأنها فقدت “المهرج“ بداخلها، حتى لو كانت ما زالت تكتب يوميًا. كانت أعمالها الأخيرة تتجه نحو الجدية، معتبرةً أن عروضها السابقة قد تناولت حياتها الشخصية بما فيه الكفاية.
اهتمام هذه الفنانة بالقضايا الاجتماعية لم يكن جديدًا، فقد نشأت في بيئة يسارية ذات قراءة ماركسية للعالم، وكانت دائمًا منخرطة في النضال من أجل الكرامة الإنسانية، وخصوصًا مشاكل المشردين الذين يعيشون بلا مأوى… وفي مشاريعها الفنية، تميل إلى استخدام منصتها للدفاع عن القضايا بدلًا من الترويج لأعمالها الشخصية. لم تكن مرتاحة لفكرة تسويق الأفلام، معتبرةً أن الوسط السينمائي بات تجاريًا إلى حدٍّ يفقد الفنان حريته. رغم ذلك، شاركت في بعض المشاريع، مثل مسلسل “أفضل نسخة من نفسي“، الذي قدمته لقناة “كانال+”
(Canal Plus) الفرنسية، مشيرةً إلى أن القناة اشترت الفكرة دون التدخل في محتواها. لكنها اليوم، بالنظر إلى التوجهات السياسية لبعض القنوات، لم تعد ترى نفسها تقبل دعمًا من جهات تتعارض مع مبادئها. في النهاية، أدركت اليوم أكثر من أي وقت مضى أن موقفها جلب لها أعداء، لكن ذلك لن يمنعها من الاستمرار في التعبير عن آرائها. بالنسبة لها، فإن استعادة القدرة على التعاطف هي المعركة الحقيقية، رغم تشاؤمها حيال إمكانية تحقيق ذلك في ظل الأوضاع الحالية.
بلانش كاردان كانت تجد كل الأبواب مفتوحة لها عندما كانت تتحدث عن حياتها الشخصية ومشاكلها كامرأة، لكن ما إن وضعت المرآة أمام أعين الدولة الفرنسية، حتى تحركت الآلة الإعلامية والتجارية والبوليسية لقمعها، ولتُذكِّرها بأن هناك إطارًا محددًا لحرية التعبير، إطارٌ لا يمكن تجاوزه، حتى في البلد الذي كان منشأ حقوق الإنسان.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير