تحُلُّ الذكرى الخامسة والعشرون لتولّي جلالة الملك محمد السادس مقاليد حكم البلاد، وهي لحظة تستوقفنا جميعا، من أي المشارب نكون، لا لإجراء حصيلة، لأن المسار مستمر، ولا حتى حصيلة مرحلة، لأن لا يمكن اختزال مسار في مرحلة .نقف للذكرى، لأن الذكرى تنفع المؤمنين، وللعبرة لأن لا تقدُّمَ للأفراد والأمم من دون وقفة تأمل، لأنها مما يشحذ الأمل.
بَدْأً، نُهنئ جلالة الملك محمد السادس على الذكرى الفضيّة لتولّيه العرش، ونُهنئ الشعب المغربي بهذه الذكرى، لأن لا يمكن أن نفصل أمانة المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق عاهل البلاد، عن مصير الشعب وقضاياه، وواجب تلبية حاجاته والارتقاء به والاستجابة لتطلعاته. نقف أولا عند رأسمال ركين، بدونه يصبح أي حديث عن المنجزات مجرد أماني، وكل حياة مدنية حشوا، وهو الاستقرار. هو شيء أساسي في صرح الأمم، ولا يمكن أن يتحقق إنجاز في ظل الفوضى وعدم الاستقرار… والمؤسسة الملكية ضامنة الاستقرار.
لقد تحقق في عهد الملك محمد السادس ما يمكن أن نسميَه بالتغيير في ظل الاستمرار. لم تكن فترة حكم محمد السادس قطيعة، ولكنها حملت تغييرا في الأسلوب والأوليات.. انكبت على المجتمع وقضاياه، من هشاشة وفقر وحرمان، اجتماعيا وعلى مستوى المجال، للمناطق المعزولة. وفتح الملك باب المسكوت عنه، من قضايا حقوق الإنسان، وأرسى هيئة الإنصاف والمصالحة، وجاب أرجاء المغرب كلها، مما لم تطأه قدم سلطان قبله، في فيكيك وبوعرفة وأنفكو وإميلشيل، وزار محاميد الغزلان لحمولتها الرمزية، لأنها محطة نداء الوحدة الذي أطلقه منها المغفور له محمد الخامس في فبراير .1958 جعل جلالة الملك محمد السادس من وجهاته منطقة الريف، التي عرفت نموا غير مسبوق، وعرفت وجهات أخرى ما يمكن أن يسمى بالتمييز الإيجابي.. وواكب ذلك تغيير نوعي، وفي أحايين عدة غير مسبوق.
تغيرت مراكز بالكامل، كما طنجة والرباط ومراكش والدار البيضاء، كإطار للعيش جذاب، وأنشطة اقتصادية كبرى، ويحظى المغرب بروافع اقتصادية ومالية، لها بُعد دولي، كما ميناء المتوسط وميناء الداخلة، والقطب المالي للدار البيضاء، ناهيك عن البنيات التحتية الفريدة في إفريقيا والعالم العربي.
تصالح المغرب مع غناه الثقافي، ولم تعد الأمازيغية طابو، ولا من يرفع أو يُحدث عنها متآمرا وناقما، ومهددا لأمن الدولة… تقوى نسيج الشخصية المغربية بكل مكوناتها. سارت الثقافة العالِمة مع ثقافة الشعب، جنبا إلى جنب، في الغناء، وفي المهرجانات وفي المتاحف، وفي المسرح، وفي الرسم.. لم يعرف المغرب هبّة ثقافية غير كلاسيكية كما عرفها في ربع قرن الذي مضى. ونفس الشيء يقال عن الرياضة، ومنها إنجاز فريقه الوطني المبهر في المونديال الأخير. واستطاع المغرب، مما هو حقا استثناء، أن يزاوج بين عقيدته، وبين مستلزمات التحديث. انغمر الإسلاميون في اللعبة الديمقراطية، زكّتهم صناديق الاقتراع، ونبذتهم صناديق الاقتراع، من غير اهتزاز ولا عنف. وأضحت وسطية الإسلام المغربي “فرانشيز“ تنظر إليها دول إسلامية وغير إسلامية بتقدير وتسعى أن تستفيد منها. وحقق المغرب اختراقا كبيرا على المستوى الدبلوماسي يرجع الفضل فيه إلى خيارات جلالة الملك، أولها إقرار الحكم الذاتي في الصحراء، وهو الخيار الذي ما فتئت أن زكّته قوى دولية وازنة، منها الولايات المتحدة وإسبانيا وألمانيا وفرنسا مؤخرا.. وعيا من هذه الدول، بالجذور التاريخية لارتباط الصحراء بالمغرب، وللالتفاف المغاربة حول قضية وجودية بالنسبة إليهم، ولمكانة المغرب والتصور عنه عالميا وفي الغرب خاصة، ومصداقيته للتصدي للإرهاب، والهجرة والجريمة الدولية، ودوره في التوازنات الدولية، في عالم مضطرب، لأنه صوت الحكمة والاعتدال .لم تعد الدبلوماسية مجرد تمثيل ولكن الانخراط في خيارات استراتيجية، منها خط الأنبوب الغازي من نيجيريا إلى أوربا، وتمكين الدول التي ليس لها منفذ على البحر من واجهة بحرية.
وانغمر المغرب في مشاريع مهيكلة، وحاز السبق فيها كما الطاقة المتجددة… وتصدى ويتصدى لآفة الجفاف من خلال رؤية استراتيجية.
كلها مكتسبات لمغاربة اليوم، ورصيدا لمغاربة الغد…
ندرك طبعا أن لا نهاية للكمال ولا حدود للفضيلة: أن ما تحقق كان قابلا أن يتحقق أكثر منه، وأنه كان يمكن تفادي اختلالات وأخطاء، لكن الذين لا يخطئون هم من لا ينجزون، وانتقاداتنا حيثما كانت ليس للنكاية، ولا لتقويض البناء، بل بناء على غيرة بسبب تعثر مسارات.
من حقنا أن نفخر، ومن واجبنا أن نجعل هذا الفخر ذخيرة للمُضي قُدُما، مع العض بالنواجذ على الأسس، وهي وحدتنا، والملك هو ضامن الوحدة، وعماد التطور الهادئ، وموئل التوازنات، ومرجع التحكيم، ونسعد للانفراج الذي أتت به هذه الذكرى بالعفو عن حاملي القلم وأصحاب الرأي .حرية التعبير أسمى من زيغ أشخاص حيثما يكون، وجنوحهم حيثما يقوم، ولحمة الوطن أوْكدُ في كل الظروف، ولا سيما في ظل الاهتزازات التي يعرفها العالم، والأخطار المحدقة، والعفو لا يفل من الدولة بل يجعلها أشد متانة، ونأمل أن تزداد سعادتنا بالعفو عن كل معتقلي الرأي، مهما كانت آراؤهم.
حيّا على الفلاح، حيّا على الصلاح.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير