قدمت حركة “حماس”، فاتح ماي الجاري، وثيقتها السياسية الجديدة، متضمنة تعديلات في بعض مبادئها. لعل أهم جديد في هذه الوثيقة، إعلانها قبول إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، على حدود 1967، باعتبارها «صيغة توافقية وطنية مشتركة». ليس هنا مجال التعليق على توجهات سياسية لحركة تقاوم احتلالا غاصبا. فأسوأ ما يمكن أن ينزلق إليه واجب التضامن الإنساني مع هذه القضية العادلة، هو الانحراف نحو أي شكل من أشكال الوعظ! أما أهمية هذا التحول عند حركة حماس فتقع على مستوى الذهن، وتسائل مجمل الفضاء الثقافي العربي الإسلامي. على مدى ثلاثين سنة كانت حركة حماس ترفض أية تسوية سياسية لإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، موجهة كل جهدها في المقاومة المسلحة لتحرير كامل التراب المحتل، أي كل الأراضي التي باتت توجد فوقها إسرائيل. وكم جنت إسرائيل، وهي الغاصبة المحتلة، من تعاطف تستدره بتقديم الضحية في صورة المعتدي الذي ينوي بـ”اليهود” شرا، ومحو دولتهم. طبيعي أن تسجن حماس أفقها في هذا النطاق بالنظر لمنطلقها القائم على تأويل التاريخ وفق قراءة معينة للدين. إذا كان الوعد الإلهي محققا بالنصر على “اليهود”، فلم التنازل؟ أي معنى يصير لـ”الجهاد” إذا تراجع المجاهد عن شبر من الأرض، التي يعتقد أن الواجب الديني يفرض عليه استرجاعها كاملة؟
محو إسرائيل من الخريطة، يصبح إذن، حقيقة مطلقة لا تقبل الجدل. ليس هذا المنطق حكرا على الحركات الدينية، بل كان يسود مجمل الخطاب الإيديولوجي العربي، الرسمي منه والمعارض بمختلف تلاوينه، حول فلسطين. وكم يبدو تاريخ التطورات اللاحقة منصفة لرجل مثل الحبيب بورقيبة، وهو الذي دعا منذ 1965 إلى قبول صيغة تقسيم فلسطين كما كانت تقترحها الأمم المتحدة، والصلح مع إسرائيل.
كان بورقيبة واقعيا، بنى رؤيته على أساس المصلحة التي يمكن إدراكها فعلا، في حدود ما يتيحه الواقع، دون أن يعني ذلك الجمود والكف عن العمل لتغيير ميزان القوى. في عمق رؤيته ثمة إدراك عقلاني للتاريخ، يرى الحقيقة متطورة باستمرار، تبعا لما يقدم عليه البشر من أعمال، وما يترتب عنها من نتائج. وهكذا فإن حقيقة الوضع في فلسطين بعد حرب 1948 لم تعد كما كانت قبل. لا شيء دائم مطلقا كما كان. الأعقل أن يبنى الفعل، على أساس الحقائق الجديدة على الأرض، وليس على أساس ما يفترض أن يكون. بطبيعة الحال أنكر الجميع على بورقيبة واقعيته، وقدم في صورة الانهزامي المتخاذل، بل الخائن حتى! صحيح أن النكبات التي توالت بعد ذلك ترجع أسبابها لعوامل متعددة، لكن جوهرها يرتبط بهذا التفاوت الذهني بين الواقع والمأمول، والذي يستحيل معه إدراك المصلحة إدراكا سليما. ليست النفعية، بهذا المعنى، حكرا على ميدان الحرب، فما أكثر القضايا التي تنهزم فيها العقلانية أمام سحر الحقائق المطلقة، وفي طليعتها قضية الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة. من هذا المنظور تفتح ثورة حماس الذهنية، إن فهمت كذلك، أبواب مساءلة المطلقات، خاصة تلك التي تمنع الإسلام السياسي من التقدم نحو المصالحة مع العصر.
إسماعيل بلاوعلي