حلت، قبل أيام، سنة 2020 للميلاد كواسطة عقد بين عشرية منقضية وأخرى تستعد لتسطير صفحات جديدة من مساراتنا وتاريخنا الفردي والجماعي، هي فرصة للحديث عن هذه العشرية، لما لها من أثر بالغ في تاريخ المنطقة، ولما عرفته من تحولات قيمية ومعرفية وسياسية، ولما حققته من طفرات على مستوى الأفكار والوعي بالذات والمحيط والعالم. أكاد أجزم بأن هذه العشرية ستحتل جزءا مهما من مقررات علم التاريخ والسياسة والاجتماع لدى أجيال كثيرة لاحقة، وستكون مدخلا للحديث عن تحولات عرفتها المنطقة فيما تلا من الأيام.
لا أدري إن كان من حسن حظي أو من سوئه معايشتي لهذه الحقبة بكثير من التفاعل والرصد، لكنني أعتقد أنى كنت معاصرا وقريبا من كل إرهاصاتها ومقدماتها، إلى ما تثمر اليوم من نتائج، وما ستفرزه في قادم الأيام. بدأت المقدمات سنوات قليلة قبل بداية هذه العشرية، حين قدمت التكنولوجيا للعالم واحدا من أهم اختراعات البشرية وأكثرها أثرا في حياتها اليومية، وهي وسائل التواصل الاجتماعي. كان إطلاق يوتوب عام 2005 وفيسبوك عام 2006 بمثابة إطلاق شرارة الثورة الفكرية في عالمنا المنغلق المنطوي على منظوماته القيمية والمعرفية، لكن أثر ذلك وتأثيره لن يظهرا إلا مع هذه العشرية.
شكل ما يعرف بـ”الربيع العربي” الانفجار الأول لهذه الثورة، ورغم كل الخيبات السياسية التي عرفتها أغلب الدول التي مسها الحراك، ورغم ما تعيشه كثير من تلك الدول من دمار وحروب ما زالت قائمة إلى اليوم، إلا أن كل تلك الأحداث أفرزت جيلا جديدا يختلف كلية عن سابقيه، باستيعابه لكامل حقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، واستعداده لتحطيم كل الأصنام والمسلمات والثوابت، وانفتاحه على العالم بكل مدارسه وتوجهاته وتجاذباته.
من كان يتصور أن حركات إيديولوجية، بكل تاريخها المتراكم، وإنتاجها الأدبي لعقود من الزمن، تعلن تخليها عن كل تصوراتها السابقة، وتعلن مراجعتها لكل أطروحاتها الماضية، ودافعت عنها وقاتلت من أجلها، فإذا بها تسقطها جميعا أمام إعصار الأفكار والتحولات الجارف مع بداية هذه العشرية، رأينا بأعيننا أقواما لم يؤمنوا يوما بالديمقراطية، وكانوا يرونها كفرا بواحا وردة لا أبا بكر لها، يتسابقون على مقاعد البرلمان…
لا أخفي، هنا، أنني كنت واحدا ممن دخل هذه العشرية وقد غير كثيرا من أفكاره القديمة، وتخلص من كل ما رافقه قبلها من أفكار ماضوية زرعتها الأسرة والبيئة والسياسات العامة، هي عشرية المراجعات بامتياز. من كان يتصور أن يأتي على مجتمعاتنا زمن تنهار فيه عدد من المسلمات والقطعيات، لم يعد هناك خطوط حمراء ولا حدود فاصلة عند كثير من أبناء هذا الجيل، لا شيء يعلو على النقاش، ولا أحد بقدرته توقيف هذا المد الجارف من تحرر العقول من رقبة التقليد والتبعية، وطرحها لكل الأسئلة دون تهيب أو جبن.
منذ سقط مشروع الخلافة الإسلامية بتركيا عام 1924، وما زالت الدعوات من عدد من الإصلاحيين وبعدهم حركات الإسلام السياسي بضرورة استعادة المشروع، بل إن تأسيس حركة الإخوان المسلمين عام 1928، لم يكن لهذا الغرض، وكل ما كان بعدها من تنظيمات مسلحة وغير مسلحة، وما استتبع ذلك من مواجهة الأنظمة، واستباحة الدماء، ودخول السجون، لم يكن له غرض إلا إقامة الخلافة، وتحقيق وعد ما يروون من أحاديث ونصوص، فجاءت هذه العشرية لتنسف هذا الحلم، ولينقسم الحالمون بالخلافة إلى “ديمقراطيين” أو “داعشيين”.
بل من كان يتصور أن بعض الصفحات السوداء من تاريخنا، بما فيها من وحشية وذبح للرقاب وسبي للنساء، لن تبقى سطورا وكلمات ومرويات، بل ستتحول إلى واقع معيش نراه حيا بصوت وصورة، ليتحول حلم مئات السنين، الذي دغدغ خيالات الآلاف منا، إلى سراب موحش، نحن من رفضه ولم يتحمله.
من كان يتصور أن قبل هذه العشرية أن يكون بالإمكان مناقشة أحاديث بصحيحي البخاري ومسلم، وتعديل قانون الإرث، والمطالبة بالحريات الفردية، وكون الحجاب من العادات أم العبادات، وإن كانت الفوائد البنكية هي الربا المحرم، ومدى صحة وجود المسيح الدجال، وعذاب القبر، وعدد مما كان إلى وقت قريب من المسلمات التي لا يمكن الاقتراب منها؟
من كان يجري على باله أن تنهار بين عشية وضحاها كل تلك الصورة الذهنية المشبعة بالتقديس والإجلال، والتي بناها رجال الدين لأنفسهم عبر قرون طويلة، حتى شهدنا تهاويها على أيدي شباب متحمس لا يهاب في سؤاله ونقده لومة لائم، سيما مع ما فضحته وسائل التواصل من تناقضات وخلل في كثير من خطاب هؤلاء ومواقفهم.
خلاصة القول: هي عشرية استثنائية في تاريخ مجتمعاتنا، ولعل ما تغير فيها قد اختصر مئة سنة من التحولات، والسؤال المطروح: هل سنحسن استثمار هذه الفرصة التاريخية؟ أم أنها ستضيع كما ضيعنا فرصا أخرى؟ المستقبل كفيل بإجابتنا.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي