كان يا ما كان في سالف العصر والأوان، كان ولد صغير اسمه حميد زيد، ولد في الدار البيضاء، شهر أكتوبر، يوم الذكرى 55 للثورة البلشفية، وكان هذا الولد خائنا لوطنه المغرب.
لم يحفظ هذا الولد المغرر به نشيد بلاده الوطني، وبدل ذلك كان يستظهر عن ظهر قلب نشيد الاتحاد السوفياتي.
وقد استمع إليه أول مرة في الألعاب الأولمبية، في دورة موسكو، التي تردد فيها عزفه 80 مرة، وهي عدد الميداليات الذهبية التي حصلت عليها الدولة التي كان تابعا لها. ورغم أنه كان فاشلا وكسولا في سنوات تعليمه الابتدائي، وقد كرر في القسم الثالث الذي لم يكرر فيه أحد قبله، منذ ظهور المدارس في المغرب، فإنه كان يردد بخشوع نسخة النشيد السوفياتي الأولى والأصلية، التي تتغنى بستالين، ويتخيل نفسه جنديا وسط الجيش الأحمر، وصوت الصنوج يطن في أذنيه، وهو ينشد مع الكورس: «لقد ربانا ستالين وألهمنا الولاء للشعب وللعمل»، وعندما كان المعلم في التحضيري يلقنهم درس «علم بلادي أحمر، علم بلادي جميل»، كان يرفع أصبعه إلى عنان السماء، ويردد بصوت عال نفس الجملة، وفي باله علم آخر، يتخلله منجل ومطرقة ونجمة.
كما أنه كان يستمع إلى النسخة الثانية، بعد أن شطب خروتشوف كلماتها، واحتفظ بموسيقى النشيد فقط، نكاية في الزعيم الخالد ستالين، قبل ظهور نسخة ثالثة معدلة للنشيد السوفياتي، خالية من أي ذكر له، مع تأكيد الوفاء لـ«لينين العظيم الذي أنار لنا الدرب»، وهي الجملة التي مازلت عالقة لحد الساعة في ذاكرة الخائن، والتي قرأها بالعربية وتهجاها بالروسية، وبكل اللغات، من فرط ما كانت تتردد في ذلك الوقت.
وحين ذهب الخائن الصغير لمخيم إيموزار كندر المنظم من طرف نيابة التعليم، كانوا يفرضون على الأطفال في الصباح الباكر، وقبل تناول طعام الإفطار، أن يحيوا العلم المغربي، وينشدوا بصوت جماعي «منبت الأحرار مشرق الأنوار»، لكنه ولارتباطه بالاتحاد السوفياتي، وكتقية منه، فإنه كان يتظاهر بالغناء معهم، ويتمتم بكلمات مبهمة، بينما كان في الحقيقة مخلصا لنشيده، ويردده في السر، حريصا على ألا يفطن أحد للأمر، بل أكثر من ذلك، كان الوحيد الذي لم يتخل عن النشيد الأول، وظل رافضا لانقلاب خروتشوف وبرجنيف، ولحملتهما المغرضة ضد ستالين، مع ما صاحبها من تشويه لسمعته، وتصويره كوحش مفترس، بينما هو في الحقيقة ملاك بشارب كث، يتقطر إنسانية وحبا، وقد بنى الجمهورية، وجعل «الشمس والحرية تشعان من خلف العواصف»، وخلص الشعب من أعدائه الإقطاعيين، برميهم في أرخبيل الغولاغ.
لم ينتبه أحد إلى ولاء حميد زيد إلى الخارج، ورغم أن المقدمين والعريفات كانوا في كل مكان، ورغم وجود إدريس البصري، فإن أحدا لم يشك فيه لحظة، وبين الفينة والأخرى، كان يذهب، لزيارة فرع حزب التقدم والاشتراكية بعين السبع، للتبرك بصور لينين المعلقة على الحائط، وما كان يحز في نفسه، أن الحزب الشيوعي المغربي، كان قد أدار هو الآخر ظهره لستالين، فلا بورتريه له، ولا كلمة عنه، وقد عوضوه بصور لعلي يعتة بجوار الرفيق لينين، أو تحته، احتراما للزعامات، وللقائد المؤسس والمنير للدرب، كما تصدح بذلك كلمات النشيد السوفياتي.
وفي وقت كان فيه الشعب المغربي قاطبة مبتهجا بنتائج المنتخب المغربي في مونديال المكسيك عام 1986، وبالانتصار على البرتغال، وكانت السيارات تزمر والنساء يزغردن، كان حميد الخائن يبكي وينتحب كامرأة ثكلى أمام شاشة التلفزيون الأبيض والأسود، بسبب خسارة الاتحاد السوفياتي أمام بلجيكا، وإقصائه في ثمن النهاية، رغم أنه كان سباقا إلى التسجيل، ورغم هدفي بيلانوف، إلا أن الشياطين الحمر، وبدعم من القوى الامبريالية، وعملائهم في مكسيكو وضعوا مخدرا في كأس داساييف، أفضل حارس في الكون، بفضل تربيته التي تلقاها من ستالين، وبفضل لينين الذي أنار له الدرب وعلمه صد الكرات، فنوموه، كي يسجل عليه اللاعب البلجيكي شيفو، وتخرج الجمهورية الاشتراكية خاوية الوفاض من ثمن النهاية، في حين كان الولد الخائن ينتظر فوزها بكأس العالم، الذي أهدرته في مونديال 82، لما كان الرفيق بلوخين، يلعب مثل جنرال في الجيش الأحمر، وفي عز تألقه الكروي، ويشهد على ذلك تعذيب السوفيات للبرازيل بزيكوها وسقراطيسها، والتي لم تتمكن من الفوز إلا بشق الأنفس.
وفي يوم من أيام عام 1991، تفكك الاتحاد السوفياتي، وجاء رجل سكران ومريض، اسمه يلتسين، لا يكف عن شرب الفودكا، وعن الترنح والسقوط أرضا، وترأس روسيا، لكن الخائن حميد، لم يتخل عن النشيد السوفياتي، الذي احتفظت روسيا بلحنه القديم، مغيرة مرة أخرى من كلماته، وظل محتفظا بالأمل في عودة الشيوعيين، ومواجهة الإمبريالية والرأسمالية.
وقد مرت عقود دون أن يتحقق ذلك، لكنه مازال ينتظر، ومازال يتظاهر بولائه للمغرب، ويتعامل بذكاء مع السلطة، ويؤجل إعلان ذلك إلى الوقت المناسب، على عكس موقف الرفاق في حزب النهج، الذين يعلنون ارتباطهم بدولة لم تعد موجودة، ويحملون أعلامها في المظاهرات، ويعلقون صور لينين في المقرات، ويغنون عن المطرقة والمنجل، ويبددون الجهد والطاقة، كما لو أن شيئا لم يقع، وكما لو أن غورباتشوف لم يتحول إلى مجال الإعلانات، وإلى رمز من رموز ماركة لوي فيتون، يحمل حقيبتها الشهيرة، الغالية الثمن، ويلتقط الصور برفقتها، بضربة المنجل إياها التي تزين جبهته.
ويحكي البعض أن حميد زيد هذا مازال حيا يرزق، ينتظر الفرصة المواتية ليعلن عن ولائه لبلاد السوفيات بشكل رسمي، وليغني النشيد الوطني السوفياتي، شرط أن يعودوا إلى نسخة ستالين، ويعيدوا الاعتبار إلى كل الرفاق، خاصة رائدة الفضاء الكلبة الشهيدة الرفيقة لايكا، التي ضحت بروحها من أجل الشيوعية والإنسانية، ومن أجل ستالين ولينين.
وكما ينتظر البعض الخلافة، فهو مازال ينتظر عودة دولته وعلمه الأحمر، ولا ينجب الرفاق الصغار في المغرب، ويربيهم ويشتري لهم الحليب، إلا من أجل الاستعداد لذلك، ولا يشك لحظة في أنها قادمة، لا ريب فيها.
حميد زيد