حقا، حقا، هل تتكلم بجد أيها البنك الدولي. أخبرني، ألم تكن تمزح معنا، حين أصدرت مذكرتك، وقلت إن المغاربة يعيشون اليوم كما كان يعيش الفرنسيون في خمسينات القرن الماضي. لكن من منا هو دوغول، وهل دنيا باطما هي إديث بياف، وهل أنا هو رايمون أرون، وهل سعد المجرد هو ليو فيري؟
قل لي بصدق، وبما أنك دخلت في لعبة المقارنة هذه، فمن يكون إلياس العماري، ومن هو إدريس لشكر، ومن بومبيدو بين المغاربة، ومن هو الماريشال بيتان؟
ولا أظنك جادا أيها البنك الدولي، كما أني لا أرى في الأمر سبة، بل على العكس، أعتبره مديحا لنا نحن المغاربة، وأن نكون الآن أحياء، وفي نفس الوقت نعيش في عالم جميل لم يعد موجودا، قبل حوالي سبعين سنة، فهذا في نظري مثير ومفخرة لنا، إلا أنه ليس واقعيا للأسف.
ومن هذا الذي يرفض العيش في مستوى خمسينات القرن الماضي في باريس؟ إنها أفضل بكثير من باريس الحالية، ولم تكن فيها زحمة، ولم تكن تفجيرات إرهابية، ولم تكن فيزا.
وربما لو كان ذلك صحيحا ، فقد ألتقي يوما وأنا أتسكع في الرباط مع الكاتب الأمريكي هنري ميلر، وقد أشرب قهوة مع بوريسان فيان، أو أصادف يونسكو سكران في حانة، كما كان يحدث مع بطل فيلم “منتصف الليل في باريس” لوودي ألن، وربما أصبحت شيوعيا، لأنه كان من العيب في تلك الفترة ألا تكون كذلك.
كان كل شيء جميلا في تلك الخمسينات الفرنسية، وفي سنة 1956 بالضبط، ومثل معجزة “خلق لله المرأة”، التي لم يخلق مثلها من قبل، ولا من بعد، وكان اسمها بريجيت باردو، لكن أينها أيها البنك الدولي، أين بريجيت باردو المغربية، ولماذا تضع مثل هذه المقارنات المستفزة؟
بينما لا يوجد اليوم في فرنسا إلا إريك زمور، ومن حسن حظنا أننا نعيش في خمسينات فرنسا، والعهدة على البنك الدولي، وإلا كان قد قبض علينا، ورمانا خارج الحدود، متهما إيانا بالمشاركة في جريمة “الاستبدال الكبير”. واسأل أي مغربي، أيها البنك الدولي، واقترح عليه هذا العرض، وقل له مكانك وعصرك هو سنة 1950 في فرنسا، وأنا متأكد أنه سيجمع أغراضه، ويبيع أثاثه، ويستلف، ولن يتردد لحظة في الهجرة إلى منتصف القرن الماضي، ولو مشيا على الأقدام، ولن يعود أبدا إلى 2017، ولو أشهرت في وجهه مسدسا، فإنه سيرفض العودة إلى الحاضر. وحتى الفرنسيون، ولو خيرتهم، لفضلوا الاستقرار في تلك المرحلة الحالمة من تاريخهم. اسمح لي أيها البنك الدولي، لقد أخطأت الحساب، ومقارنتك ليست صحيحة، إذ يبدو أنه لا يعنيك إلا المال، ومعدل النمو، ولا تشغل بالك إلا الديون، ومناخ الاستثمار، والنفقات، ودخل الفرد، والأرقام، بينما لا تهتم أبدا بالسعادة، وبالذوق، وبالعيش الهني، وبالأسئلة الفلسفية والوجودية.
كنت أحترمك، ودائما كنت أقول إنك تعرف كل شيء عنا، وتراقبنا، وتعطينا الأوامر، وتمنحنا إن اجتهدنا وحفظنا الدرس جيدا خطا ائتمانيا جديدا، لكنك، صراحة، خيبت ظني هذه المرة.
ويبدو أنك تجهل كل شيء عنا، وقد أعمتك نظرتك الضيقة، ونموذجك الذي لا تحيد عنه، رغم أن وفودك تزورنا بين الفينة والأخرى، وتلتقي بمسؤولينا. فانظر إلينا مليا، وانس الطريقة التي تشتغل بها، وانس المال، وانس معدل النمو ووضعنا الاقتصادي، وستكتشف أننا خارجون للتو من سفينة نوح، ومصابون بدوار البحر.
كما ستكتشف بالبرهان القاطع أننا نعيش اليوم في كل الأزمنة، ومجرد جولة بسيطة لخبرائك في شوارعنا، سوف تؤكد لك أننا ننتقل بسلاسة بين العيش في مختلف الحقب، ومرة ننام في العصور السحيقة، وأحيانا نتقدم خطوة إلى الأمام، ثم نعود لوصل صلة الرحم مع أجدادنا من بني هلال، ونزور تغريبتهم في القرن الهجري الخامس، فيغلب علينا طبعهم الخشن، ونغير على بعضنا البعض.
فأي خمسينات هذه التي تتحدث عنها؟ ويكفي أن تمعن النظر في الطريقة التي صرنا نلبس بها، وإلى هذه العبايات السوداء، وهذه البيجامات التي نتجول بها، وهذه الألوان الفاقعة، وهذه التريبورتات التي جعلنا منها حيوانات آلية، كي تغير رأيك.
فحالتنا لا تفسر بالأرقام، ولا تقاس بمعدل النمو، كما أن مشكلتنا ليست اقتصادية، بل نعاني من دوخة ومن تمازج في الأزمنة والحقب، ومنا من يعيش في الحاضر، ومنا من يمضي قدما في اتجاه ما قبل التاريخ، ومنا من يرفض التقدم ويكفره، ومنا من لا يعيش أصلا على هذه الأرض، وعيناه على السماء، ولا يؤمن بأي شيء هنا تحت، ولا بخمسينات، ولا بألفية ثالثة، ويتحرق شوقا إلى الصحراء، وإلى السنة صفر.
فعن أي خمسينات تتحدث، قل لي أيها البنك، ومن هذا الغبي الذي يرفض أن يعيش فيها، وحتى في المغرب كانت أفضل، وصورنا القديمة تخبرك، فانظر إليها، وستكتشف أننا لسنا مجرد أرقام ونسب، وأن حالتنا مستعصية، ولا تخضع لحساب الوقت، بل لحساب الذوق، الذي تراجع معدل نموه بشكل مهول، ويحتاج إلى تقويم هيكلي.
حميد زيد