تُعتبر سنة 2020 التي ودعناها، أو التي ودعتنا، سنة مفصلية في التاريخ المعاصر للبشرية، لا تقل عن تلك الأحداث الكبرى التي طبعت القرن العشرين، وحطمت معالم راسخة، وأرست أخرى، كما الحرب العالمي الأولى، أو الحرب العالمية الثانية، وسقوط حائط برلين .كان ما ميز مرحلة ما بعد سقوط حائط برلين الرؤية اليقينية، التي وضعها فرنسيس فوكاياما حول نهاية التاريخ بانتصار القيم الليبرالية من ديمقراطية ونظام السوق، في ركاب الولايات المتحدة.
ما أبعدنا اليوم عن تلك الصورة الزاهية، حيث لا يتهدد البشرية، حسب زعم فوكوياما، سوى الملل… الواقع أصدق أنباء من الكتب، فالديمقراطية في أزمة، أو تعرف كسادا، حسب عالم السياسة لاري ديامند، والحركات الشعبوية في صعود، والنيولبيرالية التي هي الوجه الجديد لنظام السوق تترنح، والأحادية القطبية ذكرى أكثر من واقع، إذِ الحلبة الدولية تحبل بفاعلين جدد، يزاحمون الغرب، وينازعون الولايات المتحدة سؤددها، وقد عشنا إرهاصات هذا الصراع في بحر السنة المنصرمة، ما بين الولايات المتحدة والصين فيما اعتُبر حربا باردة جديدة.
طلّقنا اليقينيات ودخلنا عالم اللايقين. تبدو الساحة الدولية كبركان متحرك لم يستقر بعد، ولم يخمد حممه أو استوى شكله .أصبح العِلم سلاح الإنسان في ترويض الطبيعة عاجزا أمام جائحة أدخلت البشرية “جحورها“ وحصدت منها وما تزال الملايين. عجز الاقتصاد وهو سمسم العصور الحديثة عن إيجاد حل للمشكلة الكبيرة التي يطرحها وهي حسن توزيع الثروة، وزاد مع الجائحة، في الانغمار في كساد، فضلا عما سببه، أو سببته الرّؤى القصيرة الأمد التي تجري وراء الربح من اختلالات اجتماعية وبيئية. حتى غلاة المتشككين يدركون اليوم ان الاختلال البيئي حقيقة، وأنه خطر فعلي. أما الديمقراطية، درة الغرب، وموضع فخاره فقد أضحت مُهدّدة أمام شيوع الاتجاهات الشعبوية وما تقوم عليه من استعداء الآخر.
قد لا تكون هذه الصورة إلا أعراضا، وأن البشرية لما أنْ تستعيد عافيتها ستتوارى تلك الأعراض. نتمنى ذلك، ولكن الأعراض لن تذهب لحالها من دون علاج، وهو الذي أسماه الرئيس المنتخب الأمريكي جون بايدن بخطة جديدة، لكن لن تكفي ما لم تنغمر البشرية كلها في خطة جديدة عالمية .لا بد من عقد جديد ، بين الإنسان والطبيعية، وبين الإنسان والاقتصاد، في علاقة جديدة بين العمل والرأسمال، والإنتاج والتوزيع، ولربما هندسة جديدة للمؤسسات الدولية.
لم تظهر معالم نظرية اقتصادية جديدة بعدُ، ولكن الاجتهادات الكبرى لجهابذة الاقتصاد، ومنهم حاصلين على جائزة نوبل، هما جوزيف ستيغليتز وبول كروكمان، ينعيان مدرسة شيكاغو القائمة على العَرض، ويناديان بمدرسة جديدة تقوم على الطلب، أو بتعبير أقل حذلقة يدعوان لتدخل الدولة، وهي ذات النظرة التي يدعو لها الاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي، أو اشتراكية متضامنة.
كانت الحرب الباردة تجربة مريرة، وتوزع العالم في شأنها، وعرفت البشرية حروبا بالوكالة، و نأمل ألا تأخذ الحرب الباردة الجديدة شكل القديمة.
استخلصنا، من دون شك في خضم الجائحة، أهمية المؤسسات الصحية العمومية، وأدركنا أهمية التعليم، ولكن الإدراك وحده لا يكفي، لأن الواقع لا يرتفع، بالنظر لواقع مؤسساتنا، واستشراء الرؤية المركانتيلية. لن نُصلح تعليمنا بالحلول السهلة التي تقوم على استنبات تجارب أجنبية في بلادنا لفائدة شريحة محدودة.
هل ينبغي أن نكون أقل تقنية وأكثر حدسا. ربما. والحدس لا يأتي من فراغ. يتولد من رؤية شمولية وثقافة واسعة، وهو الأمر الذي ننادي به نخبنا من دائرة المثقفين وأصحاب القرار، أكثر مما ننادي به جماهيرنا.
عاد التاريخ من أبوابه الواسعة. وعسى أن يكون اكتشاف اللقاح توديعَ مرحلة بمآسيها وانتكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، واستقبال مرحلة، نريدها أكثر واقعية، لأن الأحلام الكبرى غالبا ما تفضي إلى خيبات.
نعم عاد التاريخ، وليس المللُ الخطرَ المحدق بنا.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير