قد لا تستحضر الجماعات ولا الأفراد، بل وحتى الدارسون المتمرسون، دلالات اللحظات التاريخية حال حدوثها، إذ لا تتوفر المسافة المنهجية الضرورية لإصدار التقييم المناسب. مثل هذه اللحظات النوعية تكون محددة لما بعدها على المدى الطويل. المعارك الكبرى تخاضُ من أجل الدفاع عن المصالح طبعا. وبين حزمة المصالح هناك المشروع وهناك غير المشروع. والمصلحة المشروعة تسندها قيم ومبادئ أخلاقية، تبوأت مكانتها الكونية عن طريق التراكم التاريخي الطويل: الحق، العدالة، المساواة…
معركة غزة التي دامت 438 يوما بالتمام والكمال، تنتمي إلى هذا النوع من المعارك. شعب أعزل اغتصبت أرضه، محتجز في فضاء جغرافي مغلق، قليل العتاد والإمكانيات، يواجه إحدى أعتى الدول المدججة بأحدث الأسلحة والمدعومة ماديا ولوجيستيا من إحدى أقوى الدول اقتصادا وعتادا عسكريا وحضورا لوجيستيا عبر العالم. حددت إسرائيل هدفين أساسيين: استرداد الرهائن المحتجزين منذ 7 أكتوبر 2023 والقضاء على حماس، المنظمة المسلحة التي تحتجزهم.
من أجل ذلك، وضعت كل إمكانياتها في الميدان: حصار، تجويع، قصف، ترويع، استهداف مدنيين، تدمير مستشفيات، تصفيات مبرمجة، اعتقالات واسعة، واستعملت أعتى وأحدث الأسلحة الفتاكة: القنابل “الحفارة“ التي تزن الأطنان، والمسيرات المبرمجة ذات الأعين الثاقبة إضافة إلى الأسلحة “التقليدية“ من سيارات مزنجرة وما إليها …وحشدت وراءها حكام الدول الغربية الأبرز عدا بعض الاستثناءات التي اختارت موقفا عادلا بشرف…
رافقت إسرائيل كل ذلك بخطاب متوعد شرس بيقين لا ترقى إليه ذرة شك في كونها سوف تبلغ الأهداف المرسومة. لكن كانت للشعب الأعزل إرادة أخرى. إرادة صمود أفشلت كل شيء: السلاح الفتاك، والقسوة الممنهجة، والتجويع القاسي، والخطاب المتعالي، والأحلاف المصطفة، والحملات الإعلامية الوقحة المخجلة في الإعلام الأوروبي والغربي عموما. وليس ذلك فحسب، بل أعادت قضية فلسطين إلى جدول أعمال العالم. كل ذلك كان يجري على مرأى ومسمع من جميع شعوب الأرض. يتابعه الرأي العام صباح مساء، لم تنقذ أرواحنا من ويلاته إلا المسيرات الضخمة التي عرفتها بقاع العالم.
ما وقع إذن، مع ما أفضى إليه من اتفاق للهدنة بكل بنوده المعروفة، حدث استثنائي بكل المقاييس. وحدثٌ كهذا لا يمكن رصد كل تداعياته في مقال سريع .لكن الأساس فيه، حسب ما يبدو لي، يمكن أن يُعبر عنه بما يأتي: نحن أمام انهيار أخلاقي مريع لإسرائيل التي لم تعد تُدان فقط على ما فعلته بغزة خلال 438 يوما بلا توقف، ولكن كذلك من أجل ما فعلته منذ 75 عاما في فلسطين، منذ قرار منظمة الأمم المتحدة سنة .1947 لم يعد هناك من يتعاطف مع إسرائيل في فضاءات الرأي العالمي بلا استثناء. وربما لم ينل الشعب الفلسطيني، وليس غزة فقط، تعاطفا بهذا الحجم منذ عقود. هذا يسمى انتصارا يتجاوز اللحظة التفاوضية على اتفاق هدنة، ويتجاوز اللحظة السياسية ذاتها. إذ بالرغم من كل الخسائر المادية وعشرات الآلاف من الشهداء، فهو في ظل كل ما سبق يشكل انتصارا بطعم التاريخ بمعناه الواسع، أخلاقيا وثقافيا وحضاريا وإنسانيا.
ومهما كانت التطورات اللاحقة، فإن هذه اللحظة من التاريخ تبقى بارزة للعيان، راسخة في الضمير الجمعي، وستبقى كذلك اليوم وغدا وإلى الأبد. في شهر يناير من السنة الفارطة يوما بيوم تقريبا، كتبتُ ونشرتُ مقالا عن حرب غزة بنفس المعنى كان عنوانه: “مائة يوم غيرت وجه العالم“. لو نشرته اليوم لما غيَّرت منه فاصلة واحدة.
صلاح الوديع