هناك نظرية في العلوم الفيزيائية تقول بأن خفقان جناح طائر في المحيط الهادئ من شأنه أن يحدث إعصارا في الكرايبي. يُستدل بهذه النظرية في العلوم الإنسانية للتدليل على أن فعلا صغيرا في مكان بعيد يمكن أن يفضي إلى تحول عميق في مكان آخر. لا أدري هل يمكن اعتماد النظريات الفيزيائية لمقاربة الظواهر الاجتماعية، والمؤكد أن ما يموج به العالم من تحولات عميقة يسائلنا. إلى عهد قريب، ظهرت السترات الصفراء، وبغض النظر عن المطالب المرتبطة بالسياق الفرنسي، فإن هذه الأحداث حولت الأنظار إلى المسألة الاجتماعية وإلى حدود النظرية النيوليبرالية في معالجتها. لقد كانت هذه النظرية تعتمد على ما يسمى بالانسياب، أي أن خلق الثروة من شأنه أن يشمل كافة الشرائح، كما جداول شلال تصب في كل مكان، وتبين بالملموس فشل هذه النظرية، ذلك أنها عمقت الفوارق، مما يفترض التفكير في الميكانزمات التي من شأنها التوزيع العادل للثروة. والمسألة لا تختزل في أعراض الفوارق الاجتماعية بل في أسبابها، وهو ما يستلزم دورا فاعلا وضابطا للدولة، عوض الدولة المُيسِّرة التي لم تكن ميسرة إلا لفئة محدودة، وهي فئة النافذين.
وغير بعيد عنا، برز حراك ديمقراطي في الجزائر. كل ما يرتبط بهندسة السلطة، وكيفية تدبير المرحلة، شأن جزائري يهم الشعب الجزائري، لا يحتاج فيه لنصائح من أي كان أو دروس. ولكن مع ذلك نحن نتحدث عن شعب شقيق، تربطنا وإياه أواصر عميقة، وهذه الأواصر هي ما يجعل نأمل أن يجد الصيغة المثلى في تدبير المرحلة، مما يؤهله أن يخرج منها أكثر قوة ومناعة.
التاريخ يعلمنا أن الأحداث الكبرى التي انتظمت في شمال إفريقيا بدأت أول ما بدأت فيما يسمى اليوم الجزائر لتشمل بعدها عموم شمال إفريقيا، منذ الرومان، فعبقة بن نافع، إلى دخول فرنسا، فالكفاح المسلح من أجل الاستقلال، إلى الحركة الإسلامية في تسعينات القرن الماضي، وقبلها “الربيع الأمازيغي” في الثمانينات.
إن الناظر لحِراكات الجماهير، في كثير من أرجاء العالم، لسوف يجد أن ما يستحثها بالأساس، ليست مطالب قطاعية، وإنما سعيها للكرامة… كرامتها كأفراد، من خلال ما يسمى في العلوم الإنسانية بالاعتراف، وكرامتها كجماعة، مع ما يميزها ثقافيا واجتماعيا، وكرامتها كشعب، ليست كمجموعة أشخاص، لا رابط بينها، أو هلامية، بل ككتلة تجسد الصالح العام، وتعبر عما يسيمه المؤرخ الفرنسي بروديل بأخوة ذات حيوية، وباعتباره مصدر الشرعية. لم تعد الجماهير قابلة لأوليغرشيات تفكر لها، وتملي عليها ما تراه في صالحها، أي تعتبرها قاصرة غير مؤهلة كي تُجري الخيارات التي تليق بها.
الذي لا يبصر من الغربال يكون أعمى، كما يقول المثل العربي. تجاهل ما يموج ليس من العقل. التفكير فيه، بأناة، قد يكون من الحكمة.
إن الذي برز بشكل قوي في كثير من الديناميات الاجتماعية والسياسية، هو بروز مفهومين لم يترسخا في تربتنا بشكل قوي، هما المواطن والشعب. فلقد ظل مفهوم المواطن عندنا مقتصرا على التعريف الساري من أنه شخص له حقوق وعليه واجبات، في حين أنه وفق تعريف أرسطو، هو الشخص الذي يستطيع أن يَحكم ويمثل لحكم. أما الشعب فهو وفق التفكير الغربي، مصدر الشرعية، ومآل الفعل العام، ويرتبط عناصره برابط ذاتي عبارة عن أخوة.
أليس هذا فحوى الحديث، «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»؟ ومسؤول هنا تعني محط السؤال، أي عرضة للمحاسبة.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير