تموقعت مجلة «زمان»، منذ صدورها، كوسيط بين منتجي الفكر التاريخي والجمهور الواسع للقراء. مادتها الخام هي المنتوج الأكاديمي المغربي والعالمي، تصنعه وفق مفاهيم وآليات علوم التواصل حتى يصبح جذابا ومفيدا وسهل الإدراك. ومع ذلك، فالأساس، الذي يشكل المادة التي تقدمها «زمان» لقرائها، هو عمق المقاربة الذي تتصف به العلوم الاجتماعية، والتاريخ مكون رئيسي لها. يهتم بالزمن الماضي البعيد منه والقريب، حتى الراهن له تاريخ…
فالمسألة ليست قضية حدود، ذلك أن الماضي والمستقبل في تماس دائم، والحاضر ليس إلا لحظة عبور. المسألة كلها في جوهر عمل العلوم الاجتماعية. فعبر ميكانيزمات التفكيك وإعادة التركيب، تزيل العلوم الاجتماعية عن الواقع «بريق السحر» الذي ينسج حوله من لدن الذاكرة المختلفة للفاعلين والمخيال الجماعي الذي يؤلف بينهم. لذلك فعمل المؤرخين المحترفين مطلوب اجتماعيا، ومنبوذ وجدانيا وسياسيا، لأنه يزعج، يربك، ولا يستقيم دائما مع حسابات الفاعلين، الحاكمين منهم أو المحكومين، فموضوعية المؤرخ غالبا ما تكون مقرفة، صادمة ومثيرة للغضب والاستنكار. المؤرخ المحترف، كالطبيب المشرح، يكشف خصائص الجسم وأمراضه الظاهرة والمستترة. كان المجتمع يتجنب حقيقة الطبيب المشرح، ويفضل في بعض الحالات انتظار الموت عوض العلاج. فإن تطورت عقليات المجتمع اتجاه الطبيب وعلوم الحياة، فإنها لا زالت مترددة اتجاه المؤرخ وعالم الاجتماع . صحيح أن المجتمع بحاجة إلى شحنات الطمأنينة، إلا أن الواقع، الماضي والحاضر منه، ليس شجرة خضراء. فهو مليء بالمآسي والكوارث والتسلط والشطط وسوء التدبير، إلى جانب الابتكار والتآخي والتضامن وإشعاع القيم الإنسانية.
“زمان” باختيارها لتموقع الوساطة واعية بأنها لم ولن تكون فقط الكاشف عن كل ما هو جميل في واقعنا، بل سلطت، وستسلط الأضواء على الوجه الآخر، فهو أيضا وجهنا… ومعالجة «زمان» ليس فيها لا تحامل مسبق ولا محاباة مبرمجة.
نذكر ببعض هذه العناصر في خطنا التحريري، لأننا نود، في بداية هذه السنة الجديدة، أن ندعوكم، بكل مودة، للحظة حلم جماعي، حلم بمغرب الغد، مغرب المستقبل.
خلال لحظة الحلم هذه، سنحلق فوق الواقع، بإشعاعاته وظلماته، بمنجزاته وإخفاقاته.
الحلم قفز على الواقع، وقد يكون أيضا اختراقا للواقع من أجل تغييره إلى الأحسن والمتوخى. تعالوا لنحلم جميعا بمغرب يكون فيه للعلم والعلماء مكانة مركزية. يتوسع فيه فضاء المعرفة وتتقلص فيه مساحة الخرافة والأسطورة والشعوذة. مغرب تعاد فيه هيكلة منظومة التربية والتكوين على قاعدة عطاءات البحث العلمي وذوي الاختصاص. مدرسة توفر مقعدا لكل طفل أو طفلة، تعلمه وتصقل مؤهلاته وتعده لولوج عالم المعرفة.
تعالوا لنحلم جميعا بمغرب يعمه النماء على قاعدة اقتصاد منتج، يساهم فيه المستثمرون والعاملون على تنمية الثروة الوطنية وصيانتها، وجعل التناقض الرئيسي ليس بين الرأسمال والعمل، ولكن بين المنتجين والطفيليين. مغرب تكون فيه المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية فضاءات للخلق والإبداع وإنتاج القيمة المضافة، عوض فضاءات للاستغلال والريع الاقتصادي والاجتماعي.
تعالوا لنحلم جميعا بمغرب المواطنة المنتجة… مغرب تتأسس فيه العلاقات الاجتماعية على رابطة القانون وتساوي الجميع أمامه… مغرب ينجز فيه المواطنون واجباتهم، ويدافعون بنفس الحماس على حقوقهم، بما فيها حق الاختلاف على الحاكمين… مغرب يكون فيه القضاء عادلا فعلا، ومستقلا فعلا، ورمزا للنزاهة بامتياز.
تعالوا لنلحم جميعا بمغرب منخرط إيجابيا في عصره، عصر الألفية الثالثة، لأنه ابتكر حداثته. لم يستنسخ لا حداثة الغرب، ولم يعد إنتاج محافظة الشرق، بل استطاع ولوج الألفية الثالثة بآلياته الذهنية والثقافية والمادية.
وتسنى له ذلك بفضل تبصر وحكمة ونباهة كل نخبه والحركات الاجتماعية الحاملة لها. الحركات الإسلامية التي نبذت الغلو وابتكرت أنسنتها تاركة ما وما لقيصر لقيصر. الحركات الأمازيغية التي تخلت عن العرقية الضيقة وصاغت ببلاغة مقومات المواطنة المغربية. حركات التحرر الوطني التي اقتنعت بأن الوطنية المغربية إرث مشترك وبأن الشرعية السياسية تكتسب كل يوم عبر نضال مستمر من أجل إرساء قيم الديمقراطية والحداثة…
لنحلم جميعا بأن تصبح قاعدة التعامل بين هذه المكونات الأصيلة للمجتمع المغربي هي قاعدة الحوار والتكامل والتنافس النزيه.
لن يكتمل حلمنا إلا بمباركة الملكية المغربية له، فهي المهيكل الرئيسي لكل الحقول، والمنعش المتميز للديناميات…
حلم الملوك نعمة وبركة. وكل عام وأنتم مواطنون.
يوسف شميرو
مدير النشر والتحرير
تحية قلبية،
سيدي العزيز سعدت كثيرا بمقالكم عن المواطنة وبالكيفية التي تناولتم بها الموضوع. فهل لي بمساهمة؟
مهنتي بعيدة كل البعد عن هذا المجال، فأنا طبيب مختص في جراحة أمراض السرطان! ولكني أؤمن أننا جميعا مسؤولون عن الحوارات السائدة في مجتمعنا ومطالبون بالمساهمة فيها من أجل الرفع بمستوى الفكر في بلدنا.
لقد كتبت مقالا متواضعا في نفس الموضوع بعنوان “المواطنة…بين الهوية والعولمة” فهل يمكنني إرساله لكم؟
مودتي وتقديري