عرف المغرب، خلال شهر شتنبر 2014، إجراء إحصاء عام للسكان والسكنى، واستغرق انجاز هذا الأمر ميدانيا عشرين يوما، أي من فاتح شتنبر إلى العشرين منه، مع ما تطلبه من إمكانيات مادية وبشرية ولوجيستيكية مهمة. وتعتبر العملية السادسة من نوعها، في تاريخ المغرب المستقل، وربما الأكثر إثارة لفضول البحث والسؤال والتفاعل مع ما ورد في الاستمارات من أسئلة، لما تكثفه من هواجس وانتظارات، قبل البيانات والمعطيات والنتائج. فهو إحصاء ما بعد انفراط عقد على المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وفي ظل دستور جديد، ومناخ يطبعه الاتجاه نحو تقييم عام للدينامية التي عرفها المغرب في الخمسة عشر سنة الماضية.
قبل إجراء هذا الإحصاء كانت الجهة المشرفة عليه، أي المندوبية السامية للتخطيط، قد أنجزت ونشرت سنة 2007 دراسة حول «مستقبلية مغرب 2030، أية ديمغرافية؟» بمقاربة ما يصطلح على تسميته بـ«المستقبليات السكانية»، وتعكس كلمة المندوب السامي، التقديمية لهذه الدراسة، مدى الوعي بالديمغرافيا «كمرجع ضروري لتحديد الحاجيات الأساسية في مجالات كالتعليم والصحة والتشغيل وأنظمة الاحتياط الاجتماعي». وتقدم هذه الدارسة معطيات إحصائية ضافية في مجال التطور الذي شهدته ساكنة البلاد. فالمغرب، حسب هذه الدراسة، انتقل من خمسة ملايين نسمة سنة 1900، وهو رقم قريب جدا مما قدمه دانيال نوان أي 4.800000، إلى سبعة ملايين نسمة عام 1936، وهي السنة التي أجرت فيها سلطات الحماية أول إحصاء للمغاربة الخاضعين لسيطرتها. ليقفز الرقم مع الإحصاءات التي جرت خلال فترة الاستقلال من 11.63 سنة 1960 إلى 29.84 سنة 2004.
بقطع النظر عما شاب هذه العملية الإحصائية التي ستعلن نتائجها قريبا، سواء ما تعلق بالتكوين والتوجيه والإعداد، أو ما واجه المشتغلون من إكراهات في انجاز أعمالهم، فإن طبيعة الأسئلة الواردة في الاستمارة تحتاج إلى طرح مجموعة أسئلة من قبيل: هل تعكس فعلا هما وانشغالا باستشراف أفق في تدبير الشأن العام في ضوء نتائجها؟ وهل استجابت حقا لأفق انتظار الشريحة الواسعة من المعنيين بهذه الأسئلة؟ وهل استحضرت إكراهات الظرفية الحالية؟
تجيب دراسة «مستقبلية مغرب 2030» في صفحتها العاشرة عن لب الإشكال بالقول: «فبسبب قصور النظام الاقتصادي عن امتصاص البطالة، وبالنظر للطابع البنيوي لهذا النظام، فإن من شأن ارتفاع نسبة البالغين أن يزيد من احتداد التوترات الاجتماعية. علاوة على ذلك، وبالرغم من أن شيخوخة البنية بحسب السن تتم بوتيرة بطيئة، إلا أن التطور السريع لأعداد السكان المسنين يحتمل أن يؤدي، في آن معا، إلى تفاقم هشاشة التوازن المالي لأنظمة التقاعد والحماية الاجتماعية وكذا تحملات النظام الصحي». فما الذي جرى القيام به كمبادرات علاجية أو استباقية لتصويب الخلل؟ وما الذي جرى تحيينه في أسئلة الإحصاء الحالي على هذا المستوى؟ وما الغاية من انتظار نتائجه إذا كانت تحذيرات الدراسة السابقة قد ظلت ثاوية في زاوية الإهمال؟
حين أجرت سلطات الحماية الفرنسية عملية الإحصاء الأولى سنة 1936، كانت قد أنهت، بعد لأي، ما أسمته بعملية «التهدئة» في البوادي، وشرعت تتحسس جنينا حضريا يتشكل، ويهيكل العمل الوطني. فكان لابد من معرفة الأرض التي وضعت عليه أقدامها، حتى تتمكن وضع اختيارات في التدبير تراعي معطيات هذا الواقع، وتجنبها ما من شأنه أن يزلزل هذه الأرض تحت أقدامها.
يسائل هذا المنطق التجارب الإحصائية للمغرب المستقل، من زاوية استحضار مختلف المخططات الاقتصادية لنتائج عمليات الإحصاء السابقة. ذلك أن الهبات الاجتماعية التي خرجت للاحتجاج على سياسيات عمومية جرى إتباعها بعد محطات إحصائية، وما تضمنته دراسة «مستقبلية مغرب 2030» من تحذيرات لم يأخذ بها بشكل جدي، يعززان هواجس الشك في جدوى العملية الإحصائية. لأن المقصود بكم نحن؟ ليس عدديا، بل كم نحن في وضع لائق اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وفنيا وتعليميا وصحيا… المعطى العددي موجود، والتوقعات السكانية متوفرة وبلغة الأرقام. المطروح ليس فقط تفريغ استمارات الإحصاء وتقديم النتائج، بل استخلاص العبر واستشراف أفق.
معدل الوفيات ومتوسط العمر ونسبة الخصوبة وهرم الأعمار ومسألة الهجرة كلها عوامل محددة ومفسرة في الآن نفسه عند رسم المشهد الديمغرافي حسابيا، لكن مداخل معالجة الاختلالات فيها تمر عبر وضع استراتيجيات تؤمن بقيمة الرأسمال البشري، تستثمر فيه وبه، تجعله رافعة للتنمية الحقيقية، تلغي الإقصاء والتهميش لطاقاته المنتجة من شباب ونساء، وتجيب على أسئلة الكم بالنوع. إذ ليس مهما أن يجيبنا الإحصاء بكم تجاوزنا عتبة الثلاثين مليون نسمة، إذا لم يواكب هذا الجواب وضع آلية لجعل هذا الرقم مشتملا في سواده الأعظم على طاقات منتجة متعلمة مشتغلة متوفرة على أنظمة حماية اجتماعية متقدمة، لتكون محطة الإحصاء فعلا منطلقا للتجاوز وتصويب الأعطاب، ولكي لا نخطأ موعدنا مع التاريخ مرة أخرى.
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير