الحداثة هي مطابقة منظومة إنتاج (فكر) مع علاقات إنتاج (اقتصاد)، بتفسير بسيط مبسط .أي أنت حداثي إذا كنت تفكر بالطريقة التي يفرضها مجتمع يعتمد على القنص ما تزال فيه البشرية تعيش على القنص، وأنت غير حداثي إذا كنت تفكر بطريقة عشائرية وقبلية في طور ضمرت فيه العشيرة والقبيلة، أو هي في طور الضمور… وأنت غير حداثي إذا كنت تفكر بمنطق الدولة الأمة في عالم العولمة. والتناغم في التفكير بين منظومة الإنتاج وعلاقات الإنتاج لم يتم إلا في أوربا، مع الثورة الصناعية، وتمخض على ظهور اتجاهين فكريين غذَّيا العالم، هما فلسفة الأنوار أولا، ثم الفكر الاشتراكي لاحقا. ينطلق الأول من الحرية. أداته العقل. منطلق هذا الاتجاه وغايته الإنسان .ينظر إليه كما هو، لا كما ينبغي. أما الثاني فيُقدّم قيمة العدل ولا ينظر للإنسان بمعزل عن المجتمع، ويرنو إلى صورة مثالية له، أو إنسان جديد. يظل الاتجاه الثاني متقدما، نظريا وأخلاقيا عن الأول إلاّ أنه طوباوي، فيما الثاني واقعي وقابل للالتئام. تطور الأول والتأم مع المستجدات. غار الثاني في الدوغمائية مما يفسر انتكاساته، إلا أن بريقه يبقى قائما رغم النكسات والكبوات .لم تر حضارات لم تمر من مسار تحديث الغرب غضاضة من أن تأخذ عن الغرب وتتعلم عنه، رغم ما استشعرته مما يسمى في العلوم النفسية بالجرح الوجودي، منها اليابان والصين وتركيا… نجحت جميعها لأنها قامت بقطيعة .اعتمدت على مؤسسات هي الجيش مع/أو حزب، والمصنع والمدرسة، تتداخل جميعها حسب الحالات. مناسبة هذه المقدمة الطَللية لقاء انتظم بالخمسيات بتاريخ 25 يناير ،2019 (أي نعم، يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر)، ورشة تفكير حول الحداثة، دعت لها جمعية المحامين الشباب مع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وكأني بها مدرسة فرانكفورت التي أرست أسس التفكير النيوليبرالي، أو مدرسة كيوتو في اليابان التي نحتت ما يسمى بالاستغراب.
تصوروا معي، لا أمزح، أن يكُتب بعد خمسين سنة من أن بلاد المغرب، أي شمال إفريقيا، استطاعت أن تنجح في المنعرج الذي فرضته التحولات العميقة في العالم سنة 2020 واستفحال أزمة الغرب، وترنح نموذج الدولة الأمة الذي نقلته نخب ما بعد الاستقلال، وبداية نفوق بريق خطابات الهوية، وتعثر المقاربات التقنقراطية، واستطاعت أن تزاوج بين دواعي الوحدة ومستلزمات التحديث، بفضل مدرسة ضاية الرومي التي كانت تعقد لقاءات دورية للتفكير في أنجع السبل لتحقيق الحداثة. بغضِّ النظر عن هذا “الهذيان“ المشروع، لا يمكن أن ننجح في الحداثة من دون أن نفكر فيها، ولن نفكرها، إن صح هذا التعبير، أو أن نضعها موضع تفكير إلا بأدوات تفكير لم نصغها، وهو ما يسيمه اليابانيون بالارتحال المفاهيمي، أي التفكير فيها، وصوغ قوالب لها، انطلاقا من ذات المرجعية الثقافية واللغوية، عوض الترجمة اللسانية .ومن دون شك، أن ما أقدم عليه المفكر عبدا لله العروي، ينم عن وعي بضرورة استيعاب المفاهيم وترويضها من خلال التفكير في قيم قد تبدو لنا مسلمات، من قبيل الدولة، الحرية، العقل… وقد نُخْلف التفكير الحداثي إن بقينا حبيسي ما كتبه العروي، ولم نأخذ رحيق تجربته، أو جذوتها عوض رمادها، فننغمر في ورش التفكير، عوض أن نبقى في منطق الشرح والحواشي وحواشي الحواشي، والحلل الموشاة والتكملة… بطريق مستحدثة.
وجد اليابانيون مثلا صعوبة في ترجمة ما ينتهي في اللغات الغربية بـ Isme وهو الأمر الذي يعني في الغرب ما يسميه الألمان بنظرة للعالم ،Weltanschauung وجدوا أنهم لا يستطيعون أن ينقلوا
Confucianisme لأن الكونفوشية ليست نظرة للعالم .وكان عليهم نحت مفهوم الفرد والفردانية، وهي مفاهيم غير موجودة في اللغة اليابانية لأنها غير موجودة في الثقافة اليابانية .أما نحن فنترجم مصطلحات، هذا إن أحسننا الترجمة من دون حمولتها، ولا صياغة المفهوم. فـ République مثلا لا تطابق مدلول كلمة جمهررية بالعربية.
كان طه حسين يدعو للأخذ بما انتهت إليه التجربة الكونية كما ورد في كتابه المرجعي “مستقبل الثقافة في مصر“، ويردد أن من عرف الغاية عرف الوسيلة .ليس ذلك من قبيل المؤكد. فقد نعرف الغاية دون أن تنطاع الوسيلة، ما لم نكسر الأغلال، ما لم نفك القيود التي تحول دون بلوغ الهدف المرسوم. والنتيجة أن “مستقبل الثقافة في مصر“ كان بيضة الديك ولم يكن الترياق الذي يفضي للتحديث، لأن الاكتفاء برصد الغاية والوسيلة من دون الوقوف على نقطة الانطلاقة، غير مُجد. من هنا نبدأ .من تحليل العوائق، وفك الأغلال، فيما يقوم به الفكر أولا، وينعكس على الفعل لاحقا .في كتابه “دفاع عن الحداثة“ لألان تروين ،Alain Touraine هو جُماع (بالضمة من فضلكم، بالنظر إلى الأجواء الرائجة التي أشاعها بعض أهل الروع واللقوة ولو زعموا الورع والتقوى) تفكيره صدر قبل شهور معدودات، يقول إن هناك ثلاث حالات مجتمعية: حالة الاستقلال لكل من الفرد والمجتمع وذلك حينما يكونا فاعلين ولا تتم إلا بقطيعة عما يؤودهما أو يعوق، و حالة أقل استقلالا هي التوفيق بين الاستقلال والهوية، أو الهويات، وهي مثبطة، والحالة الثالثة، هي حالة الارتكان والخضوع والتبعية .نحن نتأرجح ما بين الثانية والثالثة، ولم نرْقَ بعدُ للحالة الأولى. شكرا لفريق نهضة زمّور الذي تأهل لمباراة السد حين أشعل شمعة ورفض أن يلعن الظلام بطرح التفكير فيما ينفع الناس .شكرا للذين ذكّرونا أن لنا قضايا أعمق من معاش (أو تقاعد على الأصح) بنكيران، وحجاب فلتنان، والفوترة والشوشرة و اللاعبات واللعايبية. شكرا لمن بعث الأمل وذكّرنا بأنه لا يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير
مقال ممتاز..