من النادر والقليل، في تاريخ الحياة السياسية للمغرب، أن يتصدى القصر الملكي بنفسه للرد على بيان حزب سياسي، وحين يقع ذلك فلا يعني الأمر سوى أن الحزب المقصود قد تجاوز الخطوط الحمراء، وانتهك المحظور، وخرق الأعراف المتعامل بها تاريخيا بين القصر ومكونات المشهد السياسي.
من الواضح جدا أن عبد الإله بنكيران، منذ عودته لقيادة دفة حزب العدالة والتنمية، بعد أن كان مساهما أساسيا وسببا رئيسا في الهزيمة المنكرة التي مني بها الحزب في الانتخابات الأخيرة، وهو يسلك كل السبل ويطرق كل الأبواب لاستعادة المجد المفقود، ويظن أن الطريق لذلك هو اللعب على العواطف ودغدغتها بشعارات هوياتية وقومية ودينية، كما كان دأبه سابقا وتمكن بذلك من الاستمرار في قيادة الحكومة لعشر سنوات كاملة، فتارة يصطنع معارك لا وجود لها إلا في مخيلته كحديثه عن ممارسة المثلية في العلن، وتارة يستغل النقاش الدائر حول تعديل المدونة والقانوني الجنائي ليقدم نفسه حاميا للدين مدافعا عن الملة، ظانا منه أن خطابات الهوية ودغدغة العواطف الدينية ما زالت عند الناس أولى من معاشهم ومشاكلهم اليومية.
ومع كثرة هذه الأخطاء وتكرارها، لم يتنبه بنكيران إلى أن استعمال نفس التكتيك الشعبوي في قضية فلسطين لم يعد متاحا كما كان الأمر من قبل، يوم كان الإسلاميون يملؤون شوارع الرباط والدارالبيضاء، وهم يهتفون: “خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود”، ويحرقون العلم الاسرائيلي بعد دوسه على الأقدام. فما بعد اتفاقات أبراهام ليس ما قبلها، ومصلحة الوطن اليوم فوق كل اعتبار قومي أو أممي، وشعار الدولة اليوم: “تازة قبل غزة”، وهو ما يفسره حديث بيان الديوان الملكي عن السياق الذي عقدت فيه هذه الاتفاقيات وأسباب نزولها.
نسي بنكيران كل هذه التحولات بين الأمس واليوم، بل العجيب أنه نسي أن حزبه هو من وقع هذه الاتفاقية، وأن رئيس الحزب السابق هو من صافح الموقعين، بل نسي بنكيران أنه خرج بنفسه ليدافع عن أخيه سعد الدين العثماني، وليعتبر ما جرى تقديرا ملكيا لا يمكن مناقشته، فما باله اليوم ينتقد مسارا سجل التاريخ أن حزبه وفي عهده جرى الاتفاق ووقعت أحرفه؟
الأغرب من كل ذلك، أن بنكيران والذي بنى مشروعه على دعم الملكية، وصرح دوما بأنه ملكي أكثر من الملك، وادعى أنه ابتكر شعار “الإصلاح في ظل الاستقرار”، هو من ينتقد اليوم سياسات وتصريحات وزير الخارجية، مع أنه يعلم علم اليقين أن ناصر بوريطة لا يتصرف من تلقاء ذاته، ولا يعود في سياساته حتى لرئيس حكومته، وأن تدبير العلاقات الخارجية من اختصاص القصر الملكي، ومما لا يخضع أبدا للمزايدات السياسية والحزبية، وإلا كيف يفسر بنكيران أن حزبه لم يكن له أي موقف نقدي من كل الأزمات الدبلوماسية التي عرفها المغرب، سواء من تدبير الخلاف مع الجزائر، أو من تداعيات الأزمة مع فرنسا، أو ما جرى سابقا مع إسبانيا وألمانيا، أو في إدانة البرلمان الأوربي للمغرب، لم نر منه أبدا موقفا في كل هذه القضايا سوى الدعم والتأييد ككل الأحزاب، لوعيها بحدودها وباختصاصات القصر ومجالات سيادته، فمن ورط بنكيران في هذا البلاغ بما فيه من تجاوزات ومغالطات خطيرة كما سماها بلاغ القصر الملكي.
خلاصة الصفعة التي تلقاها الحزب، أن تدبير العلاقات الدبلوماسية سواء تعلق الأمر بإسرائيل أو غيرها شأن ملكي، وأن القصر هو من يبني مواقف الدولة في ذلك بناء على قراءاته ومعطياته وتقديراته، وما على الأحزاب السياسية سوى الانشغال بالهم الداخلي وقضاياه اليومية، وأن زمن المزايدات قد ولى دون رجعه، فما على بنكيران وإخوانه إن أرادوا العودة بقوة للمشهد السياسي، إلا ترتيب بيتهم الداخلي، والقيام بمراجعات عميقة، والتحلي بالجرأة في النقد الذاتي، أما هذه المحاولات الشعبوية فلن ترضي ملكا، ولن تجلب صوتا.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي