عند الحديث عن فترة الحماية الفرنسية والاسبانية لبلادنا، عادة ما يتم استحضار الحركة الوطنية في مواجهة الإدارة والجيش والمعمرين الأجانب، سواء في مرحلة المقاومة الأولى للغزو الاستعماري، أو في مرحلة العمل الوطني السياسي والمسلح إلى غاية تحقيق الاستقلال. بين هذين الفريقين كان هناك مغاربة اختاروا الوقوف إلى جانب الاستعمار واعتبروا أن حماية مصالحهم تقتضي الاصطفاف في صف الاستعمارين الفرنسي والاسباني، ومواجهة الحركة الوطنية. هذه القوة الثالثة هي التي ساهمت بشكل أساسي في نفي السلطات الاستعمارية الفرنسية للسلطان محمد بن يوسف، والذي اختار الانحياز لصف الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال. يسعى هذا الملف الذي تقترحه عليكم “زمان” لتسليط الضوء على هذه الفعاليات التي ساندت الاستعمار وربطت مصالحها بمصالحه، وشارك بعضها في حروب الغزو الاستعماري لبلادنا. يعرض هذا الملف القوى التي شكلت الصف الموالي للاستعمار، بدء ببعض الزوايا والفقهاء، وبعض القياد الكبار، وبعض تجار الحماية. ما هي الحوافز التي قادت هؤلاء المناهضين لاستقلال المغرب للوقوف في صف الاستعمار؟ كيف حصل التراجع بالنسبة لبعضهم في منتصف الطريق؟ كيف انتظمت الاصطفافات وتغيرت المواقع؟ ما هي الأدوار التي قاموا بها في هذا الإطار؟ وما هي المعارك التي خاضوها ضد الحركة الوطنية؟ كيف انتهى بهم الأمر للانتصار في مرحلة أولى بنجاحهم في فرض نفي محمد بن يوسف وتعيين ابن عرفة بدله؟
تتفق أغلب الدراسات التي همت موضوع التجار المغاربة خلال فترة ما قبل الاستعمار، على ثلاثة معيقات أساسية، حالت دون تطورهم، ونمو تجارتهم بالشكل الذي يسمح بظهور بورجوازية مغربية فاعلة ومؤثرة اقتصاديا وسياسيا. وتتمثل هذه المثبطات في انعدام البنية التحتية المساعدة على نقل السلع والبضائع بين الأسواق والمراسي بالسرعة المطلوبة، وضعف السوق الداخلية ومحدوديتها، والأهم علاقة المال بالسياسة، وما عاناه هؤلاء التجار من سيف التتريك والمصادرة الذي كان مسلطا على رقابهم. وجوابا على هذا الواقع، لجأ عدد من هؤلاء التجار إلى ثلاثة أساليب للحفاظ على ثرواتهم؛ تجلت في الاكتناز عوض الاستثمار، والنزوع نحو المحافظة وعدم الجرأة على المغامرة واقتحام مجالات جديدة، اللهم ما كان من شراء للعقارات، أما الأسلوب الثالث، والذي كانت له تداعيات وأبعاد أخطر، فتمثل في الاحتماء بالأجنبي حتى لا تطال يد المخزن أموالهم.
تعمق هذا الاتجاه الأخير بشكل كبير بعد المعاهدة المغربية البريطانية سنة 1856، التي كبلت يد المخزن في تدبير اقتصاد البلاد. إذ كان بيت المال يعتمد بالأساس على الموارد الجبائية والجمركية، وكذا على نظام الاحتكارات السلطانية في مجال التجارة، التي أتاحت للمخزن موردا ماليا مهما عمل على تدبيره بواسطة عقود (Contrats) تمنح لتجار لبيع منتوج معين مقابل قدر من المال يدفعونه لخزينة الدولة. غير أن هذه المعاهدة التي أرغمت المغرب العتيق على الولوج القسري لنظام اقتصادي عصري، لم يكن مهيئا له، لم تعمل على حرمان المخزن من قسط مهم من مداخيله الجمركية فقط، بل من جزء من «نخبته الاقتصادية» التي كانت مستظلة بمظلة السلطان فانتقلت إلى مظلة الأجانب، عبر آلية الحماية القنصلية.
هيئة التحرير
تتمة المقال تجدونها في العدد 17 من مجلتكم «زمان»