لم يعول الاستعمار، في احتلال المغرب، على جنوده وحدهم، بل دشن حركات استقطاب كبيرة ضمن النخب، في المدن والقرى، لتسهيل مأموريته. وتميز من بين “حلفاء” الحماية الجدد، علماء المغرب وفقهائه وزواياه، الذين كانت فرنسا بأمس الحاجة إليهم لإضفاء الشرعية الدينية على الحماية.
استقبل جزء من المجتمع المغربي الحماية الفرنسية والإسبانية بالتهليل والترحاب، وأسهموا في تعبيد الطريق لها. فمنهم من تعاون ماديا وعسكريا، ومن لم يذخر جهدا في تثبيط العزائم، ومن استعمل نفوذه لدى القبائل حتى لا تشعل نار الحرب، ومن أجهد نفسه في البحث عن الذرائع والحجج لتبرير الواقع الجديد وشرعنته، حتى خرج من يقول إن «من يقاوم النصارى إنما يقاوم إرادة لله»! وعلى رأس هذه الفئات، يأتي ممثلو النخبة الدينية من زوايا وفقهاء وضعوا أنفسهم في خدمة الاستعمار أو هادنوه على الأقل.
شيوخ في خدمة الحماية
لم يكن التعاون بين الطرق الصوفية المغربية والسلطات الفرنسية وليد معاهدة الحماية أو أحد نتائجها. فقبل هذا التاريخ بأكثر من عقدين، لم يتردد بعض زعماء الطرق المغاربة، الأرفع قدرا، في الارتماء في أحضان الحمايات الأجنبية، متملصين بذلك من سلطة المخزن، ومعززين النفوذ الأجنبي في المغرب. أبرز نموذجين في هذا الصدد هما الحاج عبد السلام الوزاني، شيخ الزاوية الوزانية، الذي دخل تحت الحماية الفرنسية سنة 1884، والحاج بن سعيد المصلوحي، شيخ تامصلوحت، وإن كانت الحماية التي منحت له سنة 1893 هي الحماية البريطانية، في إطار الصراع المحتدم بين القوى الأوربية حول بسط نفوذها على المغرب.
بعد دخول المغرب تحت الحماية الفرنسية، يؤكد جورج سبيلمان، أحد أبرز ضباط الشؤون الأهلية، أن الطريقتين البوعزاوية والمعينية وحدهما دخلتا في حرب مفتوحة مع الفرنسيين. فحتى قبل توقيع معاهدة الحماية، عارض محمد بن الطيب البوعزاوي احتلال الشاوية (1907). فيما قاد الشيخ ماء العينين حركة المقاومة لمواجهة التغلغل الفرنسي والإسباني عبر الجنوب. وبعد وفاته في تزنيت سنة 1910، خلفه ابنه أحمد الهيبة الذي أعلن نفسه، في مراكش، سلطانا في غشت 1912، ثم شقيقه مربيه ربه الذي قاد المقاومة في الجنوب إلى حدود سنة 1934، تاريخ الاحتلال التام لسوس. أما الطرق الأخرى، يضيف سبيلمان، «فاتخذت تجاهنا حيادا حذرا بل إن بعضها، احتراما للقرارات الشريفية، وضعت سرا نفوذها في خدمة الوضع الجديد. كان هذا موقف شرفاء وزان، وشيخ الطريقة الدرقاوية، وشيخ الزاوية الناصرية، ومرابطي الشرقاويين بأبي الجعد، والكتانيين الذين أعيد فتح زواياهم من جديد تحت ضغط شيخهم سي عبد الحي الكتاني، الذي خلف أخاه السي محمد الكبير».
فالزاوية الكتانية، وبعدما أبدت عداء شديدا للتحرش الاستعماري على عهد شيخها محمد بن عبد الكبير الكتاني الذي قتل بأمر من المولى عبد الحفيظ، انقلبت إلى أشد الزوايا تعاونا مع فرنسا تحت قيادة أخيه عبد الحي الكتاني. أما الزاوية الناصرية في تامكروت، فدخل شيخها أحمد بن بوبكر الناصري في علاقات مباشرة مع الفرنسيين حتى قبل احتلال درعة. وسار ولده عبد السلام، بعد مقتل أبيه سنة 1919، على نهجه محافظا على علاقة جيدة بسلطات الحماية. من جهتهم، لم يغير خلفاء الحاج عبد السلام الوزاني من علاقة الزاوية الوزانية بفرنسا شيئا، ووضعوا نفوذهم في المنطقة في خدمة الاحتلال. والشيء ذاته قامت به الزاوية الدرقاوية، على عهد شيخها عبد الرحمان الدرقاوي، الذي رفض تقديم أي عون لمحمد بن أحمد الحجامي، شيخ الزاوية الحجامية الشاذلية، الذي هاجم فاس في ماي 1912. بل إن عبد الرحمان الدرقاوي سار بعيدا في تعاونه مع فرنسا، فحاول سنة 1925 الوقوف في وجه قوات محمد بن عبد الكريم الخطابي، قبل أن تخذله القبائل الموالية له، لينهزم شر هزيمة. في المقابل، كانت الزوايا المحلية الصغيرة، خاصة المتمركزة في الجبال، وقود حركة المقاومة في الريف وتازة والأطلسين المتوسط والكبير. وإجمالا، يخلص سبيلمان، في كتابه «مجمل التاريخ الديني للمغرب: الطرق والزوايا»، إلى أن عدد شيوخ الزوايا الذين وقفوا في صف فرنسا يعادل أو يتجاوز عدد الشيوخ الذين وقفوا ضدها. وهي نتيجة مهمة جدا، في نظر الضابط الفرنسي، إذ تمكن من مراجعة التصور الذي وضعته فرنسا مسبقا حول شيوخ الزوايا. وهو التصور الذي تولد عن تجربة احتلال الجزائر، حيث لقيت فرنسا مقاومة شديدة كان على رأسها عدد من شيوخ الطرق والزوايا.
خالد الغالي
تتمة المقال تجدونها في العدد 17 من مجلتكم «زمان»